مفهوم النعمة.. أرثوذكسيًا.. بقلم: نيافة الأنبا رافائيل

“ها أنا آتي سريعًا. تمسك بما عندك لئلا يأخذ أحد إكليلك”
(رؤ3: 11)
هذه الوصية ترن عاليًا في أذان كنيستنا القبطية.. إننا حريصون كل الحرص على الإكليل المُعد لكلٍ منا في الأبدية.. لذلك تحافظ كنيستنا المجيدة على (ما عندها) من إيمان، وصلاة، وتسبيح، وجهاد روحي عميق.. لننال أكاليل النعمة غير المغلوبة في اليوم الأخير.
1- ما هي النعمة:
النعمة هي عطية الله المجانية للإنسان وللخليقة.. ولأن الله صالح وخير لذلك فنعمته ممنوحة للجميع مجانًا وبدون سبب.
وتظهر نعمة الله جلياً في الخلق.. فالله خلقنا نعمة من فيض، حبه وللبشر أعطى نعمة إضافية هي صورته ومثاله… فصار لنا الحياة والخلود والعقل والإرادة والحرية نعمة من فيض حبه للبشر. ولما خالفنا وصيته وطردنا من حضرته، خلصنا أيضاً بنعمته وأخيراً سيدخلنا إلى ملكوته لنعمته المخلصة.
2- مشاكل الفهم:
هذه النعمة المجانية في الخلق والمواهب والخلاص وميراث الأبدية لا تلغى حرية الإنسان وإرادته وشراكته في قضيته بل لابد من مشاركة الإنسان بمجهود ولو ضئيل لينال هذه النعمة. وهذا المجهود البشرى هو ما يسمى (الجهاد الروحي)، فالبركة الرسولية التي يعطيها الكاهن للشعب في نهاية كل ليتورجية تحمل هذا التعليم فيقول (محبة الله الآب ونعمة الابن الوحيد.. وشركة وموهبة الروح القدس تكون معكم) فمحبة الآب بذلت نعمة الابن للبشر وهذه النعمة تتفاعل معنا بشركة الروح القدس لابد من الشركة.. “الله الذى خلقك بدونك لن يخلصك بدونك” (أغسطينوس).
هذه الشركة بين الله والإنسان (النعمة والجهاد) أسئ فهمها ودخلت في صراع لاهوتي استنفذ جهدًا كبيرًا من الكنيسة لتشرح وتقنن الأمور فى نصابها.
أ- التطرف الأول:
يركز جهدًا على العنصر البشرى في الخلاص متجاهلاً الدور الإلهي (النعمة) وزعيم هذا التطرف كان بيلاجيوس صاحب البدعة (البيلاجية) الذى أنبرى له القديس أوغسطينوس ليدحض فكرة وبدعته وتطرفه.. ولكن الفكر لم يمت بدفاع أغسطينوس ولم ينته عند البيلاجيه بل قد تسرب خلسة إلى فكر الكنيسة الغربية (الكاثوليك) وظهر متغلغلاً في عدة عقائد منها:
فكرة التكفيرات: التي يعطيها الكاهن للمعترف من مطانيات وأصوام وتداريب روحية التي عندنا لا تتعدى كونها تهذيبية أو تنموية أو تأديبية، لكنها عندهم لها بعد كفاري وهذا يضعف من قيمة كفارة السيد المسيح بدمه الثمين.
فكرة زوائد القديسين: وفيها يمكن للكنيسة (البابا) إن يحيل بعض ما يزيد عن حاجة القديسين من فضائل وبر إلى حساب أحد المؤمنين، لينال الخلاص الأبدى بفضل قديس أخر.. هذا أيضاً يركز على العنصر البشرى متجاهلاً بر السيد المسيح.
فكرة صكوك الغفران: وهى فضيحة فكرية بكل المقاييس.. فمالا يستطيع الإنسان اقتناؤه بمجهوده سيقتنيه بماله.
فكرة المطهر: وهى أن الأنفس بعد انتقالها من الأرض تعبر أولًا بالنار قبل دخول الفردوس لتتنقى من شوائبها وقاذوراتها.. وهذا إغفال واضح لعمل السيد المسيح في تطهير النفس…
إذاً في الفكر الغربي العقلاني الذى يؤلمه الإنسان ويمجد العقل، يصير كل الدور للإنسان بجهاده وجهاد رفقائه القديسين وبأمواله وبعذابات أخرى فى المطهر يصفى بها حسابه أيضًا بمجهوده… ولا دور إطلاقًا لنعمة الله الغنية.
ب- التطرف الثاني:
في المقابل قامت الثورة البروتستانتية الاصلاحية بسبب هذا التطرف الفكري والسلوكي وغيره من الانحرافات. لكن هذه الثورة كغيرها من الثورات لم تستطيع أن تزن الأمور وتعيدها إلى نصابها الصحيح بل تطرقت بمقدار مساو ولكن في الاتجاه الآخر (لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار ومضاد له في الاتجاه).. فخرج الفكر البروتستانتي يتجاهل الدور البشرى تمامًا ويلغى الكنيسة ويخليها من محتواها، فلم يعد هناك قديسون (أعضاء الجسد) ولا كهنوت (خدام الجسد)، ولا أسرار (إهمال المادة) ولا جهاد.. بل نعمة.. نعمة خالصة، وهذا ليس تمجيدًا للنعمة ولكنه مجرد رد فعل عنيف ضد التطرف الأول ونتج عنه عنيف تحقير للإنسان إهانة أيضاً للنعمة (الغير قادرة أن تعطى دورًا ولو ضئيلاً للإنسان).
ج- الخليقة اللاهوتية لهذا التطرف:
نعلم أن الفكر اللاهوتي الغربي يقوم على فصل الطبيعتين في شخص السيد المسيح، وبلغ هذا الفصل حده الأقصى في فكر نسطور المبتدع الذى أستبعد تماماً أن يكون اللاهوت متحداً بالناسوت (العنصر الإلهي مع العنصر البشرى)، وأثر الفكر الغربي كثيرًا بنسطور حتى إنهم لم يستطيعوا أن يقبلوا فكرة الطبيعة الواحدة لله الكلمة المتجسد التي علم بها آباء الأقباط الارثوذكس..
هنا الذهن الذى لم يستوعب اتحاد الله بالإنسان في شخص ربنا يسوع المسيح، كيف يتسنى له أن يستوعب اتحاد عمل الله (النعمة) بعملي (الجهاد) في قضية خلاصي.. إن الفصل بين الطبيعيتين هو بكل تأكيد سبب مأساة الغرب في عدم إدراك إمكانية الشركة بين الجهاد والنعمة أي بين ما هو إنساني وما هو إلهى.
3- ماذا عن كنيستنا؟
لقد أدركت الكنيسة منذ الوهلة الأولى حقيقة تجسد السيد المسيح التي تعنى أن السيد المسيح شخص واحد هو الله الكلمة وقد أتحد بطبيعتنا البشرية فصار فيه كل ما هو للاهوت وكذلك كل ما هو للناسوت في وحدة وانسجام بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير ولا تلاشى وصارت أعمال السيد المسيح كلها منسوبة له بصفته الله لا يمكن بعد الاتحاد أن نتكلم عن أعمال إنسانية وأخرى إلهية في شخص السيد المسيح، بل بعد الاتحاد صار لنا أن نتكلم عن موت الله (بموتك يارب نبشر) لأنه ذاق الموت بالجسد، لنا أن نتكلم عن “دم الله” (أع 20:28)، ولنا أن نتكلم عن الجسد (الجسد المحي للابن الوحيد) الاعتراف.
هذه الخلفية اللاهوتية الواضحة البسيطة في آن، صبغت الفكر النسكي القبطي، ففهم الآباء أن النعمة مع الجهاد يعملان في سيمفونية وسينرجية Synergy.. وأنه لا يمكن أن نتخيل الإنسان يعمل بمفرده “بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيء” (يو 5:15) وكذلك مستحيل أن الله يعمل فينا بدون ارادتنا وبدون مشاركتنا “كم مرة أردت.. لم تريدوا” (لو 34:13)، و “هأنذا واقف على الباب وأقرع. إن سمع أحد صوتي وفتح الباب أدخل وأتعشى معه وهو معي” (رؤ 20:3).
إننا نؤمن أن كل حياتنا الروحية هي حصيلة عمل الله فينا (عمل الله يعنى النعمة وفينا تعنى العنصر البشرى أي الجهاد) فمثلاً :
أ- الصلاة: يارب أفتح شفتي فيخبر فمي بتسبيحك (التسبحة اليومية).
“عندما نقف أمامك جسدياً أنزع من عقولنا نوم الغفلة أعطنا يقظة لكى نفهم كيف نقف أمامك وقت الصلاة” (التسبحة اليومية).
إن الصلاة عندنا دعوة من نعمة الله واستجابة من الإنسان.
لا يمكن أن أنهض للصلاة دون تحريك النعمة.. ولا يمكن للنعمة أن تعمل دون أن أستجيب لها.
ب- التوبة: “توبني يارب فأتوب”، “أرددنا يارب إليك فنرتد” (مر 12:51) هل يمكن للإنسان أن يتوب دون أن تحركه النعمة وتحرك ضميره.. وهل للتوبة قوة أو قيمة لو لم يكن فيها العنصر الإلهي.
ج- التطهير: “اجعلنا كلنا مستحقين يا سيدنا أن نتناول من قدساتك طهارة لأنفسنا وأجسادنا وأرواحنا..” (القداس الإلهي).
هل لنا أن نتطهر بدون دم السيد المسيح على المذبح… كيف يتسنى لإنسان بمجهوده وبمعزل عن المذبح أن يتطهر (لنا الدعوة فى هذه الجزئية لندرسها من الليتورجية بتفصيل أدق).
د- الفضائل: وهل الفضائل شيء آخر غير ثمار الروح القدس “محبة فرح سلام طول أناة لطف صلاح إيمان وداعة تعفف” (غل 22:5،23).
هذه مجرد نماذج لعمل الله فينا لكى يعوزنا الوقت أن نتكلم عن النمو الروحي والخدمة وحمل نير الإنجيل وتنفيذ الوصية… والرهبنة الشهادة… ومواهب الخدمة… والثبات في الإيمان إلى النفس الأخير… وأيضاً دخول الملكوت.
أننا لا نستطيع – بعد التجسد والاتحاد – أن نتكلم عن الله منفصلاً عن الإنسان “إذ لاهوته لم يفارق ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين” (الاعتراف)، “لاهوته لم ينفصل قط لا من نفسه ولا من جسده” (القسمة) أو بلغة أخرى – ليس لنا أن نتكلم عن النعمة معزولة عن الجهاد أو الجهاد بدون مساندة النعمة.
إننا “عاملان مع الله” (1كو 9:33) بل بالأحرى “الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا” (في 13:2) ونهتف أيضاً مع معلمنا بولس الحكيم: “ولكن بنعمة الله أنا ما أنا ونعمته المعطاة لي لم تكن باطلة بل أنا تعبت أكثر منهم جميعهم، ولكن لا أنا بل نعمة الله التي معي” (1كو 10:15)، “فأحيا أنا لا بل المسيح يحيا فى” (غل 20:2)، “فإذا نحن عاملون معه نطلب أن لا تقبلوا نعمة الله باطلاً” (2كو 1:6)
“ليس أننا كفاءة من أنفسنا أن نفتكر شيئًا كأنه من أنفسنا بل كفايتنا من الله” (2كو 5:3).
“وأنواع أعمال موجودة ولكن الله الواحد الذى يعمل الكل في الكل” (11كو 6:21).
“فشكراً لله الذى يعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح” (1كو 57:15).
4- المعمودية كنز النعمة:
كأنما إنسان ملك وقد رصد في البنك باسم ابنه يوم مولده أموالاً تكفيه وتغذية في كل احتياجاته ومصروفاته منذ الميلاد وحتى الوفاة… هكذا يرصد السيد المسيح باسمنا كل النعمة اللازمة لحياتنا وبنياننا وخدمتنا وفهمنا للإنجيل والطاقة اللازمة لتوبتنا وحمل الوصية والخدمة.. كل هذا يدعه السيد المسيح في بنكنا الداخلي يوم أن نعتمد باسمه بالماء والروح… إنك -كمسيحي- قد نلت كل ما تحتاجه مسبقاً فليس لنا عذر في تكاسلنا… “وصاياه ليست ثقيلة” (1يو 3:5) لأننا سبق أن نلنا النعمة اللازمة لحملها وتنفيذها “لأن كل من ولد من الله (بالمعمودية) يغلب العالم” (1يو 4:5) “التوبة ليست عسيرة” لأننا نحمل نعمة الله المحركة المؤازرة… “الخدمة ليست تباهيًا” لأنه “أي شيء لك لم تأخذ، وإن أخذت فلماذا تفتخر؟” إذا كما هو مكتوب “من أفتخر فليفتخر بالرب” (1كو 31:1)… ويقول مع معلمنا بولس: “لا أنا بد نعمة الله التي معي” (1كو 10:15).
5- الإفخارستيا اضرام لنعمة المعمودية:
إن الإفخارستيا للمعمودية كمثل وقود يضاف بثبات واستمرار ليحفظ الشعلة متوهجة وكمثل تغذية لعضو قد زرع في الجسد.. سيموت لو لم يتغذى.. وستنطفئ النعمة فينا لو لم نشعلها ونضرمها يوميًا بالإفخارستيا.
6- نداء:
طوبى لمن يكتشف النعمة التي فيه وينهضها بالحب… “قم يا رب لماذا تنام”… طوبى لمن يسمع ويعمل… ليست الطريق خطرة ولا وعرة فالرفيق فيها قدير والنعمة فيها غنية… والجهاد فيها ميسور “نيري هين وحملي خفيف” لأن الرب نفسه يحمل معنا العبء الأكبر.
في الحقيقة إن جهادنا لا يخلصنا، ولكننا لن نخلص بدون جهادنا. فالنعمة في حالة انتظار فينا وليست غريبة عنا… تنتظر استجابتنا لنتشارك معاً فنتمم قضية خلاصنا “محبة الله الأب. ونعمة الابن الوحيد. وشركة وموهبة الروح القدس” آمين.