أيها الصليبيون، إنّ الأمان لكم أماني!.. «من لحظة الاختطاف حتى النحر»

بقلم: مينا المصري
بعد اختطافهم في مدينة سرت الساحلية الليبية.. لم يكن يشغل بال هؤلاء العمال الأقباط المصريين أي شيء حول ما سيحدث في العالم بعدها.. ولم يكن يعنيهم معرفة من الذين سيُهملون قضيتهم.. ولا من سيتاجر بمحنتهم.. وبالطبع لم يتوقعوا أن تكون الضربة الجوية المصرية الأولى ضد تنظيم داعش في ليبيا ستكون بعد ساعات من عرض الفيلم المؤلم الذي يعرض عملية ذبحهم.. وظهر فيه معدن هؤلاء الرجال من الأقباط “الصعايدة” والذي كان أصلب مما قد يظن البعض.
ولم يكن يشغلهم بالطبع بماذا كان يفكر ويعتقد هؤلاء الخاطفين القساة عندما اختطفوهم.. قد يكونوا سمعوا منهم بعض شذرات الكلام المتفرقة خلال أيام الأسر.. يسمعونهم يقولون عنهم أنهم نصارى صليبيون.. دعهم يقولون.. يتحدثون بحماس عن شيء يسمى دولتهم الإسلامية.. دعهم يتحدثون.. فكل هذا أيضًا لم يعد يعنيهم الآن.
لقد انعزلوا عن عالمنا المريض.. وانعزلنا نحن عن مصيبتهم.. هم لا يعرفون أي شيء نعرفه نحن عن كل ما حدث بعد اختطافهم.. كما لا نعرف نحن أي شيء عن ما يعيشونه هم.. ولم يعودوا يعرفون أي شيء عن عالمنا سوى خبر من هنا أو هناك قد يكونوا سمعوه على لسان أحد السجانين.. هم لا يأملون كثيرًا في أن يهتم أحد بشأنهم سوى أسرهم وأقاربهم.. ولا يعرفون إذا كان سيتم قتلهم؟.. أم أنه مازالت هناك فرصة لعودتهم سالمين؟.. وإذا حدث وتم قتلهم.. فهم لا يعرفون أن كان سيعرف العالم بذلك؟.. أم سيختفي أثرهم إلى الأبد؟
إذن ما الذي كان يعنيهم بحق؟.. في ماذا كانوا يفكرون عندما تم اختطافهم؟.. إذا حاولنا أن نتخيل الأمر.. ونضع أنفسنا موضعهم.. لا شك أنهم في البداية سيصابون بحالة رهيبة من الذعر والهلع عندما يفكرون فيما قد يجرى لهم!.. وحالة من عدم التصديق لكل ما يحدث.. وكأنهم في كابوس مرعب.. خاصة إذا تعرضوا على أيدى هؤلاء الإرهابيين لتعذيب جسدي ونفسي لتحطيم أعصابهم.. وكسر أي قدرة على المقاومة لديهم.. وبالتأكيد سيفكر كل منهم كثيرًا في مسألة كيف سيكون مصيره؟!.. لكن بعد مرور الوقت.. وبعد أن يدركوا حقيقة أن مصيرهم محتوم حتى لو كان مؤجل.. فسيكون كل تفكيرهم في حالة ذويهم وأسرهم عندما يعرفوا بما حدث لهم!
فهذا عامل بناء كادح متزوج ذهب إلى ليبيا من أجل لقمة العيش.. سيفكر في حال زوجته وأطفاله.. ومن سيعولهم إذا أصابه مكروه على أيدي هؤلاء.. وهذا الشاب اليافع أيضاً يتذكر خطيبته التي تغرب لكي يكون قادرا على الزواج منها.. يا ترى أين هي الآن؟.. وماذا ستفعل عندما تعرف بما حدث له؟!.. مسكينة هذه الفتاة!.. وأما هذا الشاب فلا يحمل أي هم ولا يشغله سوى لوعة قلب أمه عليه عندما تعلم بخبر خطفه.. كيف هو شعورها الآن؟!.. يريد فقط أن يطمئنها بأي وسيلة.. يريد أن يخبرها أنه سيكون بخير في كل الأحوال.. هو لم يعد يعنيه الآن أي شيء سوى أن يطمئن على أنها ستكون بخير دائمًا.. يريد أن يخبرها بكل ذلك.. ولكن كيف؟!.. لقد حدثت الفاجعة بشكل مفاجئ.. لم تتاح لأي منهم فرصة كي يرتبوا أمورهم قبل الرحيل.. كم واحد منهم كان لديه شيء يريد أن يخبره لشخص ما.. أو حتى وصية يريد أن يوصى بها أقرب الناس إليه.. وكل منهم سيسأل نفسه كيف سيتقبل أهله ذلك الخبر المزعج!
وهنا يسترجعوا في أذهانهم تلك الأخبار المشوشة التي كانوا يسمعوها عن كل من اختطفوا أو استشهدوا في ليبيا من قبل.. وأيضا عن الذين استشهدوا من أهالي بلدهم في الصعيد على أيدي الطائفيين من تنظيم الإخوان المسلمين.. كانوا يتابعون أسماء هؤلاء في الأخبار دائماً.. كانوا مجرد أرقام.. وأصبح كل منهم الآن رقم من ضمن هذه الأرقام.
ولا شك أنهم قد اقتربوا من بعضهم البعض روحيًا ومعنويًا أكثر من قربهم لأي أشخاص أخرين كانوا قد عرفوهم في حياتهم السابقة لتلك المحنة.. هم الآن جميعا شركاء في وجع واحد.. ترى هل كان لديهم فرصة للحديث والتواصل مع بعضهم البعض.. حتى يشجع كل منهم أخاه على الصبر حتى المنتهى.. ولكن حتى لو كانوا معزولين عن بعضهم البعض.. ففي هذه الأوقات العصيبة.. نظرة واحدة تكفى.. بل حتى إيماءة بسيطة.. يكفي أن ينظر أحدهم للسماء حتى تصل إليهم الرسالة كاملة.. بأنه لا جدوى من الأمل في خلاص أرضى!.. فلا خلاص حقيقي إلا عند رب السماء.
فلا مجال هنا للهرب.. ولا توجد إمكانية للتفاوض مع أحد ما بشأنهم.. وليس هناك أي فرصة لأن يرق قلب أحد هؤلاء الشياطين ويسربهم في الخفاء.. فهم قوم لا يمزحون ولم يسبق أن خرج أحد من بين أيديهم حيًا.. لقد أضمحل كل أمل في الخلاص.. وأصبح كل منهم عليه أن يفكر بجدية في مصيره النهائي.. مصيره الأبدي.. ولو كان هناك شيء أخر سيشغل تفكير كل منهم.. فهو أن يطمئن على أسرته.. يصلى من أجل أن يعطيهم الله الصبر على فراقه.. ويمر عليهم خبر استشهاده بسلام.. ويطلب أيضا من أجل خلاص نفوسهم.. يتشفع بالعذراء مريم لكي تصلى عنهم.. ويطلب أيضا من قديسين الكنيسة وشهدائها أن يصلوا عنه لكى يعطيه الله سلام قلبي.. وقوة لمواجهه الموت بصبر.
ويبدأ كل منهم في تذكر سير شهداء الكنيسة التي كان يقرأها أو يسمعها في السنكسار.. ويفكر أحدهم في أنه كان يندهش ويسأل نفسه حينها: كيف احتمل هؤلاء تلك الآلام بذلك الصبر والثبات العظيم؟!.. ولكن الأمر أصبح مختلف الآن.. فلم تعد هذه مجرد أحداث في تاريخ الكنيسة قرأ عنها أو سمع عنها.. فعليه الآن أن يكون هو أحد هؤلاء الشهداء الذين كان يقرأ عنهم!
ليس لديهم كتاب مقدس الآن حتى يقرأوه ويجدوا فيه تعزية لنفوسهم المضطربة.. لكنهم يتذكرون على الأقل بعض الآيات الكتابية التي حفظوها في مدارس الأحد.. أو سمعوها تُقرأ في القداس الإلهي.. أو قرأوها في أحد النبذات الروحية.. فيتذكروا قول المسيح لهم: “لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد.. ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها.. بل خافوا بالحري من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنم” (مت 10: 28).
ويوم بعد يوم يزدادوا غربة عن عالمنا.. وعالمنا أيضًا بمرور الوقت ومع كثرة الأحداث ينساهم.. عالمنا الذى لم يعد عالمهم الآن.. عالمنا منشغل في قضايا كثيرة.. ولسان حالهم يقول: دعهم ينشغلون.. عالمنا لديه أحلام وطموحات كبيرة.. دعهم يحلمون.. فهم أنفسهم كان لديهم أحلام كثيرة من قبل.. ولكن أين هي تلك الأحلام والآمال الآن؟!.. كلها اختفت.. وتبخرت تماماً!.. وهنا قد يتذكرون قول المسيح لهم: “لو كنتم من العالم لكان العالم يحب خاصته.. ولكن لأنكم لستم من العالم.. بل أنا اخترتكم من العالم.. لذلك يبغضكم العالم” (يو 15: 19)
نعم لم يعد هذا العالم يخصهم.. هم الآن في قمة العالم.. فلم يتبقى لهم شيء يخشون عليه.. ولم يعد لديهم شيء يحلمون بتحقيقه.. لم يعد هناك أي حلم.. حتى الفرصة في النجاة!.. ينطبق عليهم ما قاله القديس أغسطينوس: “جلست على قمة العالم.. حينما أصبحت لا أخاف شيئًا.. ولا أشتهى شيئًا”
ولو كان أحدهم قد قرأ عبارة أغسطينوس هذه من قبل.. لأستوعبها وفهم معناها كما لم يفهمه من قبل!.. كل شيء يتكشف الآن.. حقا.. إنها لحظة الحقيقة!.. لم يكن من الممكن أن يصلوا لهذا المستوى من الوعى إلا عن طريق تلك العزلة وذلك الألم.. وكما قال المتنيح البابا شنودة الثالث: “الألم أقوى وأعمق من البهجة وأكثر صدقا.. وفيه يقف الإنسان أمام حقيقة الحياة.. وأمام حقيقة نفسه!”
لقد صاروا يدركون الآن بالفعل أن كل شيء باطل وقبض الريح.. ولا منفعة تحت الشمس.. فالموت كان سيكون مصيرهم على أي حال.. ويشكروا الله لأنه أتاح لهم فرصة أن يكونوا مستعدين لمفارقة الحياة باطمئنان على أبديتهم.. في عالمنا كانت ستسرقهم زحمة الحياة وتفاصيلها عن إدراك كل هذا.. بل أن كل واحد منهم أصبح يتمنى أن تصل رسالته هذه لكل من يحبهم.. فكيف يمكن أن تصل رسائلهم تلك؟!.. يكاد كل واحد منهم يصرخ في وجه العالم قائلاً: أريد أن أطمئنكم فقط أنى بخير.. ولا يشغلني الآن سوى أنتم.. أحبكم جميعا.. وأرجوكم.. أفيقوا!
وأخيرًا.. تأتى لحظة الذروة.. وهى لحظة استشهادهم.. وذلك بعد رحلة جهاد طويـلة ومريرة خلال الأسر.. كانوا يحتاجون إليها جدا للنمو في النعمة.. اكتسبوا فيها قوة روحية.. القوة التي تجعل كل منهم يهتف باشتياق حقيقي قائلاً: “لي اشتهاء أن أنطلق.. وأكون مع المسيح.. ذاك أفضل جدًا”
لا نعلم بالضبط متى اكتشفوا حقيقة أنه سيتم تصوير عملية ذبحهم.. فهل كان هؤلاء القتلة يجبروهم على ممارسة بروفة يومية لهذا المشهد.. أم حدثت هذه البروفات في نفس اليوم!.. لا نعلم حتى الآن.. ولكن كيف كان يفكر كل واحد منهم حينها.. أتخيل أن رد فعلهم الداخلي سيكون هكذا.. “يا ربى!!.. أنهم سيصورون مقتلنا!”.. معدات وآلات التصوير تدل على أنهم محترفون.. لقد أصبحوا يعلمون الآن أن لحظه استشهادهم سيراها العالم كله!.. بما فيهم أسرهم وأقاربهم وأصدقائهم.. “آه لا أريد لهم أن يشاهدوا هذا.. سيكون الأمر مؤلما وقاسيا جدا على أمي!.. لن يحتمل أطفالي بشاعة هذا المشهد!.. ولكن لما لا؟!.. قد يكون هذا سبباً يدعوهم للثبات في الإيمان!”
الأحداث تتسارع.. يصلون إلى الشاطئ.. يبدو لهم البحر كئيبًا هذه المرة.. والسماء ملبدة بالغيوم.. يرتدون ملابس الإعدام البرتقالية.. وأيديهم مكبلة خلف ظهورهم.. ويجرهم الجنود الملثمون بزيهم الأسود.. يسيرون على شاطئ البحر بشكل منظم جدا.. ثم يقف بهم الجنود فجأة.. ويركعونهم على ركبتيهم.. يا ترى كم مرة أعادوا تصوير هذه المشاهد الكئيبة حتى يرضى عنها مخرج الفيلم!
ثم يظهر القائد لهؤلاء القتلة بزيه العسكري ووجهه الملثم.. ويتحدث أمام الكاميرا بلغة إنجليزية غالبا لا يفهمها معظم المغدورين أو جميعهم.. ويقول: “أيها الصليبيون. إن الأمان لكم أماني”.. يقول هذه العبارة مشهرا خنجره في مواجهة الكاميرا بطريقة درامية مفتعلة لبث الرعب في قلوب المشاهدين للفيلم حول العالم.. لم يكن يعرف ذلك القائد أن هؤلاء الأقباط العزل قد باتوا يدركوا أنه لا أمان حقيقي على الأرض.. في أي وقت وفى أي مكان.. وأن مخلصهم يسوع المسيح قد أخبرهم بهذا من قبل قائلا: “تأتي ساعة فيها يظن كل من يقتلكم.. انه يقدم خدمة لله”(يو 16: 2).. ثم طمئنهم أيضا قائلا: “قد كلمتكم بهذا ليكون لكم في سلام.. في العالم سيكون لكم ضيق.. لكن ثقوا.. أنا قد غلبتُ العالم” (يو 16: 33)
وبعد أن أنهى ذلك القائد كلمته المليئة بالكراهية السوداء.. بدأ الجنود الملثمين يدفعون الأبطال المقيدين للانبطاح على الأرض.. استعدادا لذبحهم.. ويرفع كل جندي خنجره وهو يضغط بركبته على ظهر كل واحد منهم.. وهنا يصرخ الأبطال “يا ربى يا يسوع”.. وكأنهم في صرختهم يصلون يا رب أجعل هذه الثواني تمر بسرعة أرجوك.. كان هدفهم هو الانتصار على الخوف الإنساني الطبيعي.. كان كل منهم يصرخ لكي يقوى نفسه على مواجهه النحر بصبر.. مثلما يصرخ المريض بصوت عالي حتى يخفى ويكتم صوت الألم بداخله.. وفى ذات الوقت يكون صراخهم إلى الله هو أخر شيء يقومون به.
يا إلهى.. أنها ليست مثل المقصلة.. ليست مجرد سيف حاد يهبط بقوة فوق الرؤوس.. لكي ينهى الأمر بسرعة وبدون ألم.. يا إلهى!.. غلاظ القلوب عديمي الحس يجزون الرؤوس من الأسفل.. على أي حال.. أي أن كانت طريقة النحر.. لقد أنتهى الأمر سريعا.. وتظهر لنا أمواج شاطئ البحر مخضبة بلون دمائهم.
مساكين هؤلاء القتلة!.. نعم هؤلاء الإرهابيين هم المساكين.. وبجبنهم ملثمين!.. فهم لا يعلمون شيئا عن مدى قوة هؤلاء الشهداء الأبطال الآن.. فلم يظهر على وجوههم أي خوف.. ونظراتهم كانت ثابتة.. كان هذا بسبب عمل النعمة الذي يجعل الانسان يرتفع في الروحانيات.. ويسمو فوق الأرضيات.. حتى فوق غريزة الحياة والبقاء!.. ويحلق بحواسه في آفاق عالية نحو السماء.. يشبهون في جهادهم الأبرار والقديسين.. فهم يعلمون أنهم بالموت سينالوا إكليل الشهادة.. وسينعموا بحياة أبدية.. وقد أختصر عليهم طريق الجهاد في العالم.. فلماذا لا يثبتون حتى النهاية؟!
القتلة لا يعلمون كم هو “عزيز في عيني الرب موت أتقيائه”! (مز 116: 15).. فكل واحد من هؤلاء الأبطال مهما حقدوا عليه و”حنقوا بقلوبهم وصروا بأسنانهم عليه” (أع 7: 54).. كان مثل الشهيد أسطفانوس الذي كان “وجهه كأنه وجه ملاك “(اع15:6).. و “أما هو فشخص الي السماء وهو ممتلئ من الروح القدس فرأي مجد الله ويسوع قائماً عن يمين الله” (آع7: 55).
وجميعهم كما قال معلمنا بولس الرسول: “تجربوا في هزء وجلد.. ثم في قيود.. وايضًا حبس.. رجموا، نشروا، جربوا، ماتوا قتلا بالسيف.. وهم لم يكن العالم مستحقا لهم”(عب11:38:36).. وكأن لسان حالهم يقول مع معلمنا بولس الرسول: “لي الحيـاة هي المسيح.. والمـوت هـو ربح”(في 1: 21).
بركة صلواتهم تكون معنا في زمان غربتنا. آمين