الحكمة التي من فوق.. هل نخدم إلهنا أم نخدم ذواتنا؟!

لعل من أهم الفضائل التي يجب أن يتحلى بها الخادم عامة و خادم اللاهوت الدفاعي بصفة خاصة فضيلة الحكمة … الحكمة في الرد، الحكمة في ربح النفوس قدر المستطاع و الحكمة في تلافي الأخطاء الشخصية التي تؤثر علي جودة الخدمة وقوتها قدر المستطاع .
و أما الحكمة فينبغي أن يسلك فيها الخادم بحسب الوصية و بوداعة حتي تكون حكمته نازلة من فوق ، و تلك الوداعة تقتضي أن نبعد قدر إمكاننا عن أن نسعي أن نكون معلمين ، حيث جميعنا عرضة للخطأ ، و لذلك فمن الأفضل أن نضع الله في موضع التعليم حيث القدوة الخالية من العثرات و بذلك نعُلم أنفسنا أولاً قبل أن نُعلم غيرنا ، و لا نعظ و نعامل الآخرين من موقع المعلم المنزه و الذي فوق مستوي الخطأ بل موقع الأخ المحاط بالضعف و المعرض للسقوط و الذلل مثله مثل الموعوظين ، دون الاستئثار بالرأي و التشبث به بدون مرجعية كافية سواء أبائية أو كتابية أو ليتورجية أو علمية ، حيث الخطأ وارد و الجميع تحت الضعف .
ليتنا نبعد عن السعي لمواقع التعليم و كراسيها عملاً بالوصية ” لاَ تَكُونُوا مُعَلِّمِينَ كَثِيرِينَ يَا إِخْوَتِي، عَالِمِينَ أَنَّنَا نَأْخُذُ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ لأَنَّنَا فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ نَعْثُرُ جَمِيعُنَا “ (يع 3 : 1- 2) ، بل نحيا كمن يعلم نفسه بحسب ما قال بولس الرسول “بَلْ عِظُوا أَنْفُسَكُمْ كُلَّ يَوْمٍ، مَا دَامَ الْوَقْتُ يُدْعَى الْيَوْمَ ” (عب 3: 13) ، و الأفضل أن نُعلم من موقع أننا كلنا تحت الضعف و معرضين للخطأ “أَيُّهَا الإِخْوَةُ، إِنِ انْسَبَقَ إِنْسَانٌ فَأُخِذَ فِي زَلَّةٍ مَا، فَأَصْلِحُوا أَنْتُمُ الرُّوحَانِيِّينَ مِثْلَ هَذَا بِرُوحِ الْوَدَاعَةِ، نَاظِراً إِلَى نَفْسِكَ لِئَلاَّ تُجَرَّبَ أَنْتَ أَيْضاً. اِحْمِلُوا بَعْضُكُمْ أَثْقَالَ بَعْضٍ وَهَكَذَا تَمِّمُوا نَامُوسَ الْمَسِيحِ. لأَنَّهُ إِنْ ظَنَّ أَحَدٌ أَنَّهُ شَيْءٌ وَهُوَ لَيْسَ شَيْئاً، فَإِنَّهُ يَغِشُّ نَفْسَهُ. وَلَكِنْ لِيَمْتَحِنْ كُلُّ وَاحِدٍ عَمَلَهُ ” (غلا 6 : 1) .
و عن الحكمة تكلم معلمنا يعقوب في رسالته موضحاً أهم سمات الحكمة الألهية و محذراً من ثمار و خطورة الحكمة البشرية النفسانية و التي نستعرضها باقتضاب في السطور التالية:
خطورة الحكمة البشرية :
لا شك أن استسلام الإنسان و أنسياقه لفكره أو لحكمته المحدودة، امر خطير يورد الإنسان للتهلكة، لانه ” تُوجَدُ طَرِيقٌ تَظْهَرُ لِلإِنْسَانِ مُسْتَقِيمَةً، وَعَاقِبَتُهَا طُرُقُ الْمَوْتِ” (ام16: 25)، فلا تكن أذن ” لاَ تَكُنْ حَكِيمًا فِي عَيْنَيْ نَفْسِكَ” (ام3: 7)، وذلك:
- لأنك محدود في إمكانياتك الفكرية.
- ومحدود في قدراتك التنفيذية، فقد تقتنع بشيء ما، ولكنك لا تستطيع الوصول إليه.
- ومحدود في معرفة ما هو لصالحك، فالحياة مليئة بالمنعطفات والمتاهات.
- ومحدود في معرفة المستقبل والغيب، فقد تختار ما هو صالحاً الآن، ثم يثبت انه غير صالح في المستقبل .
يمكنك يا أخى الحبيب أن تعاند متشبثاً بذاتك وتتمسك بفكرك الخاص، لكن ثق ان هذا الطريق مُهلك، و فاشل، و كذلك أيضاً يمكنك أن تترك نفسك كعجينة طيعة لمشيئة الله في كل امر، فتسير في نور المسيح، ومساندة النعمة، وحراسة الاله، فتثمر وتنجح وتعود فرحاً.
و لاحظ يا أخي أن ذلك التسليم لا ينقصك شئ بل يزيد ، و تذكر أن الرسول بولس أراد ان يبشر في آسيا، فمنعه الروح. و قصد ان يذهب إلى بيثينية، فرفض الروح ايضاُ. فنام في هدوء في ترواس منتظراً إعلانات الله، ولما رأى الرجل المكدونى يناديه قائلا ” اعْبُرْ إِلَى مَكِدُونِيَّةَ وَأَعِنَّا” (اع16: 9)، ذهب إلى اليونان، ونجح هناك و زاد أنجازاً و فاعلية حيث صار مؤسساً لخمس كنائس مباركة.
دعوني أذكر نفسي و أياكم بأن ” َالْعِنَادُ كَالْوَثَنِ ” (1صم15: 23)، لانه عبادة للذات، اما ” كُلَّ الَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ اللهِ” (رو8: 14) تاركين ذواتهم فهذا وحده كفيل بأن يجعلنا اولاد الله، وما اعظمه من مركز.
سمات الحكمة الإلهية :
يحدد لنا معلمنا يعقوب سمات الحكمة الالهية فيقول:
” أما الْحِكْمَةُ الَّتِي مِنْ فَوْقُ فَهِيَ أَوَّلاً طَاهِرَةٌ، ثُمَّ مُسَالِمَةٌ، مُتَرَفِّقَةٌ، مُذْعِنَةٌ، مَمْلُوَّةٌ رَحْمَةً وَأَثْمَاراً صَالِحَةً، عَدِيمَةُ الرَّيْبِ وَالرِّيَاءِ.” (يع3: 17). إذن، فالحكمة الإلهية تتسم بما يلى:
- طاهرة:
أي نقية من كل شر، بعكس الحكمة البشرية الملوثة بالضعف البشرى والطمع والأغراض الشخصية. - مسالمة:
أي فيها روح الوداعة والهدوء والسلام، بينما الاتكال على الفكر البشرى المجرد، يعنى العجرفة والكبرياء، ويقود إلى الغضب والانفعال، ثم إلى المخاصمات والمهاترات.. - مترفقة:
أي انها طويلة الاناة، طويلة البال، تجعلك تحاور في هدوء وصبر حتى تريح الاخرين وتريح نفسك، دون تسرع أو تطير أو تعسف أو ثورة. - مذعنة:
أي تجعلك مرناً قابلاً لتصحيح موقفك، فاتحاً صدرك للرأي الآخر مهما بدا مضايقاً أو مناقضاً لك، فهي تعلمك أن تذعن للحق (أن صح رأي الآخر و ثبت دقته)، والحق هو الله، وكتلميذ لله تتفاهم في هدوء عارضاً رأيك في وداعة، منتظراً آراء الاخرين ونقدهم و سامعاً له فارزاً الثمين من البخس فيه ، مستعداً للتنازل عنه حين يبدو لك ضعف الرأى أو خطأه (سواء رأيك أو رأي الآخر). - مملوء رحمة:
أي انها حانية رقيقة غير متكبرة على الأخرين، بل تحس بأحاسيسهم، وتحترم مشاعرهم، وتحنو عليهم حتى في اخطائهم أو ضعفاتهم كى تقودهم إلى فكر المسيح. - و أثماراً صالحة:
وما هي اثمار الحكمة الالهية الا ثمر الروح من “مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ” (غلا5: 22، 23)؟ - عديمة الريب والرياء:
أي خالية من التشكك والوسوسة، اذ يكون الإنسان واثقا من فكر الله، وقادراً على تمييز مشيئته ” كَيْ يُعْطِيَكُمْ إِلَهُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَبُو الْمَجْدِ، رُوحَ الْحِكْمَةِ وَالإِعْلاَنِ فِي مَعْرِفَتِهِ، مُسْتَنِيرَةً عُيُونُ أَذْهَانِكُمْ” (اف1: 17، 18). - حكمة عديمة الرياء :
ليس فيها غش ولا كذب ولا إلتواء، ولا يظهر الإنسان فيها ما لا يبطن، بل بالحرى يكون واضحاً ومستقيماً ونقياً، أمام الله والناس، في السر والعلانية ، صالحاً أن يستخدمه الله في خدمة الآخرين و نمو و ثبات البيعة المقدسة.
ليتنا نصلي لله طالبين الحكمة و ثمارها بلجاجة ، طالبين أن يُترك عنا نير أوثان الذات و شهوة كراسي التعليم أن وجدت .