الإيمانالشجرة المغروسةملفات إيمانيةموضوعات مسيحية

نيافة الأنبا سيرابيون يكتب عن عدم التناقض بين المحبة والتمسك بالعقيدة

كثر الحديث في هذه الأيام عن العقيدة وارتباطها بالمحبة. فالبعض يهاجم من يتمسكون بالعقيدة السليمة بأنهم لم يتعلموا محبة الآخرين وقبول الآخر. إنهم يعتقدون أن التمسك بالعقيدة السليمة نوع من التعصب لا يتفق مع جوّ المحبة الذي ينبغي أن يكون بين المسيحيين خاصة في هذه الأيام. البعض يتجنب الحديث في أمور العقيدة حتى لا يجرح مشاعر الآخرين أو حرصًا على علاقات المحبة. والبعض عندما يضطر لذلك يبدأ حديثه بمقدمة طويلة ليؤكد المحبة، والبعض الآخر يحاول أن يخفِّف الأمر فيعتبر أن الأمر مجرد اختلاف في الطريقة أو الأسلوب أو الطعم، ومع هذا لا يسلم من الهجوم. ولنناقش هذا الأمر ونحاول الإجابة على بعض الأسئلة.

1-ماذا نقصد بالعقيدة؟

العقيدة هي وديعة الإيمان الذي استلمناه من الآباء الرسل وحفظه آباء الكنيسة عبر الأجيال وعاشته الكنيسة من خلال ليتورجياتها المقدسة. القديس بولس يوصي تلميذه تيموثاوس ويوصينا جميعًا «احفَظِ الوَديعَةَ، مُعرِضًا عن الكلامِ الباطِلِ الدَّنِسِ، ومُخالَفاتِ العِلمِ الكاذِبِ الِاسمِ، الّذي إذ تظاهَرَ بهِ قَوْمٌ زاغوا مِنْ جِهَةِ الإيمانِ» (تيموثاوس الأولى 6: 20-21). ولكن كيف تحفظ الوديعة؟ يقول القديس بولس لنا «لاحِظْ نَفسَكَ والتَّعليمَ وداوِمْ علَى ذلكَ، لأنَّكَ إذا فعَلتَ هذا، تُخَلِّصُ نَفسَكَ والّذينَ يَسمَعونَكَ أيضًا» (تيموثاوس الأولى 4: 16). إذًا حفظ الإيمان هام لخلاص نفس الخادم الأمين وخلاص نفس المخدومين أيضًا، وبالتالي التفريط في العقيدة سبب هلاك نفس الخادم وهلاك الذين يسمعونه أيضًا! وما علاقة الإيمان بالحياة الروحية؟ يقول القديس بولس: «كُنْ قُدوَةً للمؤمِنينَ: في الكلامِ، في التَّصَرُّفِ، في المَحَبَّةِ، في الرّوحِ، في الإيمانِ، في الطَّهارَةِ. إلَى أنْ أجيءَ اعكُفْ علَى القِراءَةِ والوَعظِ والتَّعليمِ» (تيموثاوس الأولى 4: 12-13)، فالإنسان المتمسك بالعقيدة السليمة لابد أن يكون متمسكًا بالمحبة والطهارة والحياة الروحية المقدسة. القديس غريغوريوس اللاهوتي في كتاباته أوضح أن اللاهوتي الحقيقي ينبغي أن يكون دارسًا متعمّقًا، والأهم من ذلك أن تكون حياته نقية جسدًا وروحًا.

2-كيف نتمسك بالعقيدة والمحبة معًا؟

أن نفهم معنى التمسك بالعقيدة السليمة ومعنى المحبة الحقيقية، ولكي نفهم ذلك نتأمل في حياة الرب يسوع. السيد المسيح واجه الكتبة والفريسين الذين كان لهم كثير من الأخطاء الإيمانية، مثل الفهم الخاطئ لرسالة المسيا، والفهم الحرفي لوصية السبت، ورفضهم للتعامل مع الخطاة. لم يتجاهل السيد المسيح هذه الأخطاء الإيمانية بل أوضح لهم أن رسالة المسيح هي خلاص البشرية من عبودية الشيطان من خلال الصليب، وأن السبت جُعِل لأجل الإنسان لا الإنسان لأجل السبت… الخ. ومع عناد الكتبة والفريسين حَكَمَ السيد المسيح عليهم بالويلات (راجع متى 23). فهل مسيحنا نجح في اختبار العقيدة وسقط في اختبار المحبة في تعامله مع الكتبة والفريسيين؟ 

القديس يوحنا الرسول يُلقَّب باللاهوتي وبالحبيب، يُلقَّب باللاهوتي ليس فقط لأنه ركز في إنجيله على لاهوت المسيح، بل أيضًا لأنه دافع عن الإيمان السليم ضد الهرطقات في رسائله الثلاث. كما أنه لُقِّب بالحبيب ليس فقط لأنه التلميذ الذي كان يسوع يحبه، بل لأنه كتب باستفاضة عن محبة الله لنا ومحبتنا لله ومحبتنا بعضنا لبعض (راجع يوحنا الأولى 4: 16؛ 4: 20-21). رسول المحبة يوحنا هو أيضًا رسول التمسُّك بالإيمان السليم، فقد أوصانا: «إنْ كانَ أحَدٌ يأتيكُمْ، ولا يَجيءُ بهذا التَّعليمِ، فلا تقبَلوهُ في البَيتِ، ولا تقولوا لهُ سلامٌ. لأنَّ مَنْ يُسَلِّمُ علَيهِ يَشتَرِكُ في أعمالِهِ الشِّرّيرَةِ» (يوحنا الثانية: 10، 11). القديس يوحنا لا يوصينا بكراهية الآخرين بل يعلمنا أن نحبهم محبة حقيقية تقودهم إلى التوبة والعودة إلى الإيمان السليم، كما أنه حريص على خلاص أنفسنا لأن الاختلاط بالمخالفين بالإيمان قد يؤثّر على إيمان البسطاء ويشكّكهم في عقيدتهم. 

القديس بولس الرسول كتب لأهل غلاطية «إنّي أتَعَجَّبُ أنَّكُمْ تنتَقِلونَ هكذا سريعًا عن الّذي دَعاكُمْ بنِعمَةِ المَسيحِ إلَى إنجيلٍ آخَرَ! ليس هو آخَرَ، غَيرَ أنَّهُ يوجَدُ قَوْمٌ يُزعِجونَكُمْ ويُريدونَ أنْ يُحَوِّلوا إنجيلَ المَسيحِ. ولكن إنْ بَشَّرناكُمْ نَحنُ أو ملاكٌ مِنَ السماءِ بغَيرِ ما بَشَّرناكُمْ، فليَكُنْ «أناثيما»! كما سبَقنا فقُلنا أقولُ الآنَ أيضًا: إنْ كانَ أحَدٌ يُبَشِّرُكُمْ بغَيرِ ما قَبِلتُمْ، فليَكُنْ «أناثيما»! أفأستَعطِفُ الآنَ الناسَ أمِ اللهَ؟ أم أطلُبُ أنْ أُرضيَ الناسَ؟ فلو كُنتُ بَعدُ أُرضي الناسَ، لَمْ أكُنْ عَبدًا للمَسيحِ» (غلاطية 1: 6-10). البعض ينزعج حينما تحرم الكنيسة المخالفين في الإيمان أو الذين يأتون ببدع حديثة، ويعتبرون ذلك نقصًا في المحبة وعدم الحكمة في كسب الناس. القديس بولس يعتبر عدم فعل ذلك هو إرضاء للناس وليس أمانة في عبادة المسيح. فماذا نختار: هل نرضي الناس أم نرضي الله؟ هل إرضاء الناس هو المحبة الحقيقية أم محبة مزيفة، لأن المحبة الحقيقية هي إرضاء الله لأن الله محبة.

3-كيف نحب أحباءنا المختلفين معنا في العقيدة؟

أكيلا وبريسكلا تتلمذا على يدي القديس بولس الرسول وتعلما منه الإيمان السليم، لما سمعا أبلوس يعلم في أفسس ووجدا أن تعليمه لا يتفق مع ما تسلماه، لم يهاجما أبلوس ولم ينكرا مواهبه كرجل فصيح مقتدر في الكتب، مشكلته أنه كان يفهم المعمودية على أنها مثال معمودية يوحنا أي علامة خارجية لتوبة الإنسان، أمّا أكيلا وبريسكلا فكانا يفهمان المعمودية أنها ولادة جديدة موت وقيامة مع المسيح. لذلك يقول الكتاب المقدس: «فلَمّا سمِعَهُ أكيلا وبريسكِلّا أخَذاهُ إليهِما، وشَرَحا لهُ طريقَ الرَّبِّ بأكثَرِ تدقيقٍ» (أعمال 18: 26)، إنها المحبة الحقيقية التي تدرك الإيجابيات وتعالج السلبيات بطريقة موضوعية. القديس بولس عندما وجد تلاميذ أي مسيحيين في أفسس لا يعرفون شيئًا عن الروح القدس وعمله في تدبير الخلاص رغم معموديتهم بمعمودية التوبة، صحّح لهم إيمانهم وعمّدهم المعمودية الصحيحة ومنحهم الروح القدس (راجع أعمال 19: 1-7). القديس بولس في تعميدهم قدّم مثال المحبة الحقيقية، لأن تَرْكهم معتمدين بمعمودية الرمز يحرمهم من الخلاص.

إن المحبة الحقيقية تجعلنا نتعرّف أولاً على الإيجابيات والمساحة الكبيرة المشتركة في الإيمان مع أحبائنا من الطوائف الأخرى، ولكن علينا أن ندرك الاختلافات، ومن خلال الحوار اللاهوتي نتغلّب على هذه الاختلافات، أمّا تجاهُل الاختلافات أو محاولة تحويلها إلى مجرد خلافات تاريخية سببها نقص المحبة هو نوع من خداع النفس، أو أن السعي الحماسي لوحدة المسيحيين يجعل البعض يدّعي أن الوحدة موجودة وأن الاختلافات أمور اخترعها البشر لنقص المحبة، إننا بذلك نُضِلّ أنفسنا وليس الحق فينا.

القديس كيرلس الإسكندري لم يتجاهل أخطاء نسطور اللاهوتية في فهم سر التجسد ولكنه كتب إليه رسائل يوضح له الإيمان السليم. كتب القديس كيرلس رسائله بأسلوب محبة يوضح الإيمان السليم بطريقة قوية وموضوعية مقنعة دون الهجوم الشخصي، بل نجده يبدأ رسالته العقائدية لنسطور قائلاً: “كيرلس يهدي تحياته في الرب إلى الموقر جدًا والمحب جدًا لله الشريك في الخدمة نسطوريوس”. كما أننا نجد أبانا المتنيح قداسة البابا شنودة الثالث يستخدم أسلوبًا أبويًا وروحيًا في رسالته إلى ماكس ميشيل الذي انشق عن الكنيسة، فيكتب على صفحات الكرازة في يوليو 2006 رسالة بعنوان “أنا حزين عليك يا ابنى”.

إنه أسلوب الذي كملوا في التمسك بالعقيدة السليمة وكملوا أيضًا في المحبة. أما أنصاف المتعلمين الذين يدّعون معرفةً بالعقيدة، فهم الذين يستخدمون أسلوب التجريح والهجوم الشخصي وتوزيع الاتهامات وتصنيف الناس حسب رؤيتهم الخاصة. أنهم لم يعرفوا العقيدة السليمة ولم يعرفوا المحبة الحقيقية. 

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى