ما هو التعصب؟.. بقلم: القس صموئيل لبيب

التعصب في اللغة العربية من الفعل “عَصَبَ” بمعنى يطوي أو يلوي شيئًا ما والتعصب يعني شد عصابة على الرأس، أي أن الإنسان المتعصب هو إنسان مربوط الأفكار، أفكاره جامدة لا تتحرك، ذهنه متجمد لا يسعى للتعرف بالآخر أو الانفتاح عليه أو معايشته، وبنعمة المسيح سنوضح السمات المميزة للتعصب فيما يلي:-
(1) المتعصب ليس لديه استعداد لسماع الآخر:-
الإنسان السوي يستمع إلى الرأي الآخر ويحترمه حتى وإن كان مخالفًا لرأيه أما المتعصب فهو إنسان غير مستعد للاستماع لأي رأي مخالف لما يراه أو يفهمه لدرجة إنه قد لا يستطيع أن يحتمل الاستماع إلى آخر الفقرة من الكلام.
وهناك تساؤل في هذا المجال: إذا كان أي إنسان يتكلم وقاطعه آخر هل يعتبر هذا الأسلوب أسلوباً خاطئاً؟ للرد على ذلك نقول إنه يجوز أن يقاطعه في الكلام على شرط أن يعطيه فرصة ليكمل كلامه مرة أخرى بمعنى أن المقاطعة ليس هدفها منعه عن الكلام وإنما قد تكون عرضاً لملاحظة اعتراضية، أي إنه إذا وجدت ملاحظة في نصف الكلام يمكن أن تقال ولا تكون هذه هي الروح المرفوضة التي نود أن نبتعد عنها، لكن المرفوض هو إنه قد يوجد شخص.
لا يحتمل أن يستمع إلى نهاية الحديث، وكلمة لا يحتمل أي أنه يعترض على استكمال الحديث ويعترض على الاستماع هذه الروح نسميها تعصب وهى عدم وجود استعداد لسماع الرأي الآخر وبالنسبة لمقاطعة الكلام قبل نهايته، هناك آية تقول “من يجيب عن أمر قبل أن يسمعه، فله حماقة وعار” (أم 13:18) ، اللياقة في الحديث وفي التفاهم مع الآخر تستوجب أن يستمع الإنسان لمحدثه حتى يعرض وجهة نظره كاملة ويساعده على شرح رأيه في سهولة ويسر.
إن كنيستنا القبطية كانت ولا تزال تحترم الآخر وتقدر إنسانيته وقد تعلمت هذا من مؤسسها القديس مار مرقس الرسول الذي أسس مدرسة الإسكندرية اللاهوتية، هذه المدرسة التي كانت تناقش المفاهيم والأفكار والفلسفات الوثنية، تأخذ منها ما تراه نافع وتفند وترفض الضار غير النافع، كما كانت هذه المدرسة منفتحة على العلوم العالمية فكانت تدرس اللغات والفلك والفلك والطب والرياضيات والكيمياء، وكانت تفسح صدرها للعلوم ونظرياتها تسمعها وتدرسها وتوضح ما هو حق مما هو باطل فيها، فكانت هذه المدرسة بحق منارة للمعرفة والعلم دينياً ودنيوياً ليس للإسكندرية فقط بل وللعالم كله أيضاً.
(2) المتعصب يقاوم أي فكر جديد:-
إن أسلـوب الرأي الواحـد وعدم قبول الرأي الآخر الذي يتبعه المتعصب تجعل منه يقاوم أي فكر جديد، فهو لا يستطيع الاستماع إلا لما يعرفه ويقتنع به، وهذا الأمر في منتهى الخطورة لأنه قد تتسع لدينا الرؤية لقضية ما وعندما نعرضها على الشخص المتعصب الذي ربما ينتمي لنفس الطائفة يرفضها رغم إنها لا تعارض إيمانه ولا تضاده لكنه ربط رأسه على ما به من أفكار ومفاهيم ولا يقبل غيرها.
ويذكر التاريخ أن أيام القديس البابا أثناسيوس الرسولي كان البعض يترجمون كلمة هيبوستاسيس اليونانية بمعنى جوهر والبعض الآخر يترجمونها بمعنى أقنوم، فالذين يترجمونها بمعنى جوهر يرون أن الذين يقولون أن الثالوث ثلاثة هيبوستاسيس يؤمنون بثلاثة جواهر في الله أي تعدد آلهة ويتهمونهم بالهرطقة، والذين يترجمونها بمعنى أقنوم يرون أن الذين يؤمنون أن الله هيبوستاسيس واحد سابليين (أي يتبعون بدعة سابليوس الذي علم أن الثالوث القدوس أقنوم واحد)
هذه المشكلة بين المدرستين نشأت نتيجة الاختلاف في استخدام كلمة هيبوستاسيس فالواحد يعتبر إنها تعد جوهر والآخر يعتبر إنها تعني أقنوم.
هنا نلاحظ إنه في جوهر الأمر لا يوجد أي اختلاف بين المدرستين فكلاهما يؤمن أن الله واحد مثلث الأقانيم ، لكن المشكلة نشأت من أن كل منهما قاوم فكر الآخر عن معنى كلمة هيبوستاسيس دون معرفة لقصده هنا نلاحظ أن هناك فرق بين الاختلاف في التعبير اللاهوتي و الاختلاف في الجوهر الإيماني العقيدي.
وقد كان رد القديس اثناسيوس الرسولي كالآتي: إن كان أحد يريد أن يعتبر هيبوستاسيس تعني أقنوم، إذاً سيكون ثلاثة هيبوستاسيس وإذا أراد آخر اعتبارها جوهر فسيكون هيبوستاسيس واحد وقال إنه هو نفسه يمكنه أن يقولها في نفس اليوم بالتعبيرين وبهذا أعطانا درساً كبيراً جداً في كيفية البحث عن الحقيقة اللاهوتية وليس عن اللفظ، فما أكثر ما حدث من قيام مشاجرات وانشقاق جماعات بسبب الاختلاف في التعبير اللاهوتي
وهكذا علمنا القديس قبول الفكر الجديد ومناقشته ومعرفته بروح الحب.
(3) المتعصب لا يعرف من هو الآخر:-
لأن المتعصب يرفض الاستماع للرأي الآخر ويرفض كل فكر جديد فهو بذلك لا يعرف من هو الآخر ولا ما هو فكره أو عقيدته، وبذلك يمكن أن يهاجم الآخر وعقيدته وهو لا يعرفها مثلما حدث عندما هاجت الجماهير المتعصبة لأرطاميس على القديس بولس وكان “أكثرهم لا يدرون لأي شئ كانوا قد اجتمعوا” ( أع 32:19 ).
(4) المتعصب قد يلجأ إلى العنف:-
هـذا مــا حـدث مـع القـديسين يعقـوب ويوحنا الرسولان عندما قالا للرب:
“يا رب أتريد أن نقول أن تنزل نار من السماء فتفنيهم (السامريين) كما فعل إيليا أيضًا” (لو 54:9) هكذا تعصبهم كيهود ضد السامريين جعلهم يلجأون إلى هذا العنف.
والقديس بولس الرسول نتيجة لتعصبه لليهودية كان” لم يزل ينفث تهديداً وقتلاً على تلاميذ الرب وكان يسوق المؤمنين موثقين إلى أورشليم”
(أع9: 1-5) وحتى عندما رجم القديس استفانوس كان شاول راضياً بقتله
(أع 1:8) لكن محبة المسيح عندما أشرقت في قلوب أولئك التلاميذ خلعوا التعصب ولبسوا المسيح وتحولوا من قتلة إلى مقتولين حباً في المسيح المصلوب وحباً لأعداء الصليب!!
(5) المتعصب لا يفرق بين الانفتاح والتنازل:-
فالانفتاح مطلوب وهام جداً وهو أن أفتح قلبي وعقلي للآخر بروح المسيح أسمعه، أناقشه، أقدره، أعرض وجهة نظري دون تجريح أو هجوم أما التنازل فهو إني أتنازل عن عقيدتي وهذا مرفوض فنحن أبناء الكنيسة القبطية الأرثوذكسية آبائنا ضحوا بدمائهم لأجل الإيمان وسلامته فكانوا ثابتين في الإيمان مثل الجبال بل لقد قيل “تزحزح جبل من مكانه ولا تزحزح قبطي عن إيمانه”.
(6) المتعصب ينظر للآخر بازدراء:-
هكذا كان اليهود ينظرون إلى الأمم على إنهم يستحقون الهلاك والموت واليونانيين كانوا يرون أنفسهم المثقفين من البشر وأما بقية الناس فهم البرابرة، والرومان كان يرون أنفسهم السادة وبقية الشعوب هم العبيد.
لكن السيد المسيح علمنا أن الإنسان مهما كان ، هو عزيز وغالي في عيني الله فجاء السيد المسيح “لا ليُخدم بل ليخدم”، يقول القديس إغريغوريوس في القداس “أنت الذي خدمت لي الخلاص لما خالفت ناموسك” فلا يجب أن تنظر لأحد بازدراء أو دونية.
(7) المتعصب لا يسعى لخلاص الآخر:-
فعندما طلب الله من يونان النبي أن يذهب إلى مدينة نينوى الأممية وينذرها أن الله سيبيدها لشرها كان هذا أمراً ثقيلاً على النبي اليهودي فكيف يذهب إلى مدينة أممية ، تكون رسالته لها إنذارها أن الله سيبيدها لكنه كان يخشى أن الله سيرحمها ، فهل يكون النبي اليهودي رسول الرحمة للأمم؟ كلا .. إذن ليهرب يونان من هذه الرسالة، أو ليهرب كما ظن من وجه الرب، وعندما التزم أن يطيع الله وعندما رأى رحمة الله اغتاظ جداً بل طلب الموت لنفسه ولم يكن يفهم أن الله لجميع الناس.
نفس هذا الفكر نجده عند اليهود المتنصرين الذين أرادوا أن يغلقوا باب التبرير بالإيمان العملي (الإيمان هو الخطوة أولى في الخلاص) أمام الأمم (أع 15)
وقد علمنا الرب أن نطلب خلاص الجميع فها هو يقود المرأة السامرية إلى الخلاص على الرغم من عداوة اليهود للسامريين حتى أن المرأة انذهلت ذهولاً عظيماً وقالت له “كيف تطلب مني لتشرب وأنت يهودي وأنا امرأة سامرية، لأن اليهود لا يعاملون السامريين” (يو 9:4).
(8) التعصب ضد الحب:-
عندما قدم الناموسي سؤال للرب “من هو قريبي؟” أجابه السيد المسيح بمثل السامري الصالح، الذي مر باليهودي الجريح فلم يرَ فيه يهودياً ولم يرَ فيه عدواً بل رأى فيه أخاً محتاجاً فقدم له ما يجب عليه من نحو أخيه ، هنا زال التعصب وحل محله الحب وهكذا أعلن السيد المسيح للعالم القرابة الإنسانية العامة( لو10: 25-37) والإنسانية وحدها لا تستطيع أن تهدم ذلك الجدار لأنها في حاجة إلى قوة إلهية وهذه تجلت في السيد المسيح.
ففي المسيحية لا يوجد مجال للتعصب فالكل عند الله سواسية لا فرق بين ذكر وانثى، ويوناني وبربري ، عبد وحر بل الكل واحد “إله وأب واحد للكل الذي على الكل وبالكل وفي كلكم” (أفسس 6:4).
أن المسيحية هى المحبة، محبة الله للإنسان والإنسان لله والإنسان للإنسان
“لا تكونوا مديونيين لأحد إلا بأن يحب بعضكم بعضًا”
(رو 13: 8)