المعجـــزة.. بين الحقيقة والوهم
بقلم: آمال فتحي مسعد
“الحق أقول لكم إن أرامل كثيرة كن في إسرائيل في أيام إيليا حين أُغلقت السماء مدة ثلاث سنين وستة أشهر لما كان جوع عظيم في الأرض كلها. ولم يرسل إيليا إلى واحدة منها، إلا امرأة أرملة، إلى صرفة صيداء. وبرص كثيرون كانوا في إسرائيل في زمان أليشع النبي، ولم يُطهر واحد منهم إلا نعمان السرياني” (لو 4: 25 -27).
يروق لي أن أستهل كلماتي بهذه الآيات التي تكلم بها رب المجد وإن كانت تشير بالدرجة الأولى إلى قبول الأمم بذكر إيليا النبي وأليشع كمثالين لأنبياء صنعا معجزات بين الأمم وإنما هي تدعونا للتساؤل.. لماذا فقط صنعت المعجزة مع امرأة صرفة صيداء.. ومع نعمان السرياني؟؟
في عملية إحصائية نستطيع تطبيق مثل هذا التساؤل على حياتنا اليوم.. كم مريض سرطان يعاني من المرض في العالم؟ كم منهم يتم شفاؤه المعجزي؟ وكم يؤدى به الحال للوفاة؟؟.. هل الله غير قادر على صنع معجزة لكل المرضى المتعبين؟ “تعالوا إلىّ يا جمـــــــيع المتعبين” (مت 11: 28).
أم إن المعجزة لها شروط ما لابد من توافرها فيهم؟؟ وهل تعتمد المعجزة بالدرجة الأولى على تحقق الشروط أم تعتمد على إرادة الله؟؟
كنت أجلس مع أحدهم في ذلك اليوم الذي حدثني عن بعض حوادث الطرقات، وكيف أن من يحبه الله ينجيه من الموت المحقق ويكتب له السلامة.
مما استفزني بشدة أن أسأله.. وهل أولئك المتوفون لا يحبهم الله؟؟ أم أنه لا يحب ذويهم؟!.. مع اختلاف وتباين حالات الوفاة وأشخاص المتوفين واحتياج عائلاتهم لهم.. نفس درجة المحبة والارتباط الأسرى.. دراسة كل حالة لا تجد اختلافات حقيقية تجعلك تدرك أو تقرر لماذا هذا دون ذاك.. ويبقى التساؤل معلقًا.. ولا يسعك إلا أن تُبكٍم صوت عقلك وتروح تردد: إنها الحكمة الفائقة التي لن أدركها ابدًا.
الحقيقة إنني.. استأت بشدة من هذه الكلمات.. متبنيه شعور أهالي المتوفون.. فعدت لأتساءل..
وهل ذوي المتوفون لا يتوجب عليهم الإحساس بتلك الغصة التي تعتمل في الصدور ليس فقط لفقدان أحباؤهم وإنما أيضًا لنعت الكثيرين لهم إن الله لا يحبهم فماتوا تحت عجلات السيارات.. مسدحين على الأرصفة تغطيهم ورقات الجرائد؟؟ أهل في هذا القليل من الرحمة بهم؟؟
ازدراء بمشاعر الحزن لا يحمل أدنى قدر من التعزية..
من وقتها وأنا أفكر مليًا فى الأمر.. أحاول أن أحصل على ردود شافية.. لا أقتنع بمنطق عدم إعمال العقل.. أراه يناقض مبدأ الإتجار بالوزنة والربح.. أليس العقل وزنة؟؟ ألم يقل القدماء أن (ربنا عرفوه بالعقل)؟؟ وهل يتوجب الآن إلغاء العقل لمعرفة الله؟؟ كلها أمور تجعلني في حيرة من أمرى..
يقول البعض إن الإيمان شرط أساسي وجوهري لإتمام المعجزة.. فإن كان كذلك فلما احتمل السيد الرب شك توما إذن؟.. كاسرا بذلك شرط الإيمان إذا كان رئيسيًا لإتمام المعجزة؟؟.
هل هناك ثبات فى مثل هذه الأمور؟ بمعنى خطوات معينة تضمن حدوث المعجزة؟؟ بالرجوع للكتاب نجد أن الحال يختلف بين الكثيرين ممن أُتمت إليهم معجزات على اختلافها.. فمثلًا معجزة شفاء المفلوج (مر2: 4) لم ترتبط بإيمان المريض وإنما إيمان أصحابه.. فى ( مر 4 : 40 ) معجزة تهدئة العاصفة.. هل توقف العمل المعجزى على إيمان التلاميذ.. أم إن الرب نفسه بعد أن هدّء العاصفة التفت إلى تلاميذه متسائلًا.. “ما بالكم خائفين هكذا ؟ كيف لا إيمان لكم؟”
أتم المعجزة دونما إيمان.. بل إنه بعد تمام المعجزة يقول الكتاب: “خاف التلاميذ خوفا عظيماًً، وقالوا بعضهم لبعض «من هو هذا؟ فإن الريح أيضا والبحر يطيعانه».. (مر 4: 41) من هو هذا!!.. والسؤال هل الإيمان هو شرط لإتمام المعجزة أم هو نتيجة لحدوثها؟؟ فما الهدف إذن من المعجزة إذا كان الكتاب نفسه قال “الآيات تتبع المؤمنين (مر 16: 17)
في اعتقادي أن المعجزة الأعظم هي تلك التي صارت حين تشكك التلاميذ وقت الصلب.. فتبددوا جميعا بين الاختباء والنكران والخيانة.. أهل ثمة إيمان بين أولئك الأشد التصاقا بالسيد الرب آنذاك؟؟ ثم يحدث التشدد بعد القيامة.. فيجاهرون أمام ولاة وملوك مقدمين حياتهم كذبيحة حب وشهادة حية.. فهل هذا الذي حدث يفوق الطبيعة؟؟ وهل شك التلاميذ جميعهم كان حائلاً دون إتمام المعجزة؟؟!! فالقيامة وحدها أحدثت التغيير.. ولم يكن تشككهم وانصرافهم عنه حائلاً لعدم إتمام ظهوره المعضد..
فيما بعد.. تلك الظهورات التي كانت العامل الأول في تثبيتهم..
ما أستخلصه من هذا أن العملية ليست هي نمطية وإلا هي سلوكيات موحدة بترتيبات طقسية معينة تضمن إتمام المعجزة
وهو ما يدعونا للتفكير.. في ماهية المعجزة وأسبابها وأهدافها؟؟
يقول.. (ريتشارد ل. بورتيل) فى الصفات المميزة للمعجزة -ويتفق معه الكثيرون.. أن المعجزة هي خرق للمسار الطبيعي للطبيعة.. من قبل قوى الله.. بشكل مؤقت.. واستثنائي.. لغرض إظهار عمل الله في التاريخ
وهنا تثار العديد من التساؤلات.. هل المعجزة هي خرق للمسار الطبيعي للطبيعة أم هي خرق لمفاهيمنا عن هذا المسار؟؟
بمعنى هل لأننا نجهل الأمر فصار حدوثه بالنسبة لنا فائق لاستيعابنا وعليه قررنا إنها معجزة ؟؟ فمثلا قد يجهل البعض إنه يمكن للحديد أن يطفو.. هذا حينما يرى حديداً طافياً.. فبالنسبة له قد كسرت نواميس الطبيعة وتحقق العمل الإعجازي..
كما قد يجهل أحدهم أن مغناطيسا هائلاً يمكنه أن يجذب قطعاً من الحديد.. وعليه تتحقق لديه المعجزة إذا حدث الأمر.. الآن أتذكر موسى النبي (خر7) .. وكيف أتم من المعجزات ما لم يعجز السحرة وعرافوا مصر على إتمامها.. وعليه يمكننا التقرير أن إتيان ظواهر غير معتادة تبدو خارقة للطبيعة لا يشير بحال إلى عمل الله الإعجازي..
فمثلاً لو أخترق أحدهم حائط.. فهذا تناقض للطبيعة.. قد يراه البعض إنه حقق معجزة ولكن ماذا بعد؟؟ إن الله لا يحقق تناقضات في الطبيعة وإنما معجزات هادفة وعليه يلزمنا البحث عن دليل أخر لمعرفة ما إذا كان هذا العمل من الله أم لا.. بخلاف قاعدة إن المعجزة استثنائية ومؤقتة..
المعجزة هي مؤقتة. واستثنائية.. ليست عمل يتسم بالثبات والاستمرارية.. ولا مثلما يعتقد البعض إنها ناتجة عن حدوث طفرة ما فى الطبيعة كالطفرات التى غيرت شكل الأرض مثلاً.. وإنما هي مؤقتة تحدث مرة.. لهدف معين.. ثم لا توجد أيضاً بعد ذلك.. فمثلاً أن يمشى بطرس على الماء مع الرب (مت14: 29) هو عمل إعجازي.. مؤقت.. أما أن يستمر بطرس مالكًا لهذه الطبيعة التي تجعله مستمراً في القيام بنفس الفعل (المشي على الماء) فهو ما لم يحدث.. كما إن الأمر لم يتكرر مع بطرس أو سواه ربما استلزم الأمر إعلانًا إلهيًا في بعض الأوقات عن براره أحدهم فأعطاه نفس الخاصية.. التي أعطاها فى السابق لبطرس.. ولكنها تبقى أيضا مؤقتة واستثنائية.. لا تتوقف على إرادة الشخص ذاته وإنما على قوى ربما هو ذاته يجهل ماهيتها.. وهنا تتحقق المعجزة.. ليس فقط بالنسبة للآخرين وإنما أيضا له ذاته.. فالمريض الذي يتحقق له الشفاء هو عاجز في حقيقة الأمر عن إدراك ما حدث.. ولا يد له وإنما هي تلك القوى العليا التي تفوق حدود إدراكه
وإني لأقول إن المعجزة على ذلك ستتحقق لا محال.. وإنما أرى إنها لا ترتكن لثوابت.. حتى الإيمان الذي أكد الرب على ضرورة وجوده قد يتغاضى عنه إذا توجب إحداث المعجزة لتعضيد مثل هذا الإيمان..
فالمعجزات هي رسالة موجهة من الله.. لتقرير حقيقة ما.. وعليه إذا خلت الظاهرة التي تبدو معجزة من الرسالة فلا أعتقد إن ثمة معجزة حدثت.. فربما يحدث طوفان ليقرر الله حقيقة إنه الخالق وإنه كما يمتلك القدرة على العمل يمتلك نفس القدرة على الهدم.. الرسالة ربما لا تفيد الشخص بذاته فمثلا الهالكون في الطوفان لم يستوعبوا تلك الرسالة وإنما أستوعبها نوح وأهل بيته.. واستوعبتها الاجيال المتعاقبة..
وعليه يلزمنا دومًا البحث عن أهداف وراء ما يعلن إنه إعجازي.. إذا تحققت من وراءه فائدة كان هو عمل الله وإن لم يتحقق فهو للبلبلة والتشويش فرئيس سلطان الهواء (اف 2: 2) هو قادر أيضا على إحداث بعضًا من الأمور الخارقة
أيضًا أعطيت المعجزات للمؤمنين.. لتأييد رسالتهم.. وهكذا نرى أن المعجزة انتشرت على مستوى الأنبياء قديما والرسل وما بعد عصر الرسل
المعجزة تؤيد الصلاح وتمجد الله فكيف لمعجزة أن تحدث من الله يخلفها شر.. أو كيف لمعجزة تؤدى بنا إلى عكس ذلك (عكس تمجيد الله)
إن المعجزات لا تحدث اعتباطًا.. وهذا ما يبرر أن يشفى أحدهم من مرض عضال في الوقت ذاته الذي تنهى حياة آخر متأثرًا بنفس المرض مادام هناك هدفًا من وراء إتمام المعجزة فربما يتوافر الهدف في حالة بينما ينتفي في أخرى..
ومن هنا أيضًا يبرز منطق المحبة الإلهية.. وينتفى ما يزعمه البعض من أن مثلا إتمام الشفاء لمريض هو دليل محبة الله.. لأنه وإن كان قد أقام لعازر بعد أن بكى عليه.. حتى أن قال اليهود.. “أنظروا كيف كان يحبه” (يو11: 36).
ولكن المعجزة ليست هي الضمانة أو الدليل على المحبة.. لأنه وإن كان كذلك لأنتفت إذن محبته للمعمدان إذ تركه للسجن وقطع الرأس!!.. دونما تدخل منه.. وعليه فبماذا نجيب عن التساؤل ألم يكن يحب القديس المعمدان؟؟!!
والآن ختامًا إليك هذه التساؤلات التي ربما لا يملك الرد عنها غيرك
هل ونحن بصدد الذهاب إلى أحد الأديرة لنوال بركة من أجساد القديسين.. أو ما شابه.. -حينما نتزاحم كلما رأينا متسع مكاني في تسابق وتبارى واضح لإنجاز وإتمام ما أتينا من أجله (نوال البركة)- يتهيأ الجو الملائم لإتمام معجزة ما؟؟.. ألم يقل الكتاب كل شيء بلياقة وحسب ترتيب (1 كو 14: 40) كلنا نعلم بالطبع إنه كانت الجموع تزحمه في ذلك الزمن.. البعض للفرجة والبعض بغية تحقيق مطلب ما والبعض للتشكيك فى قدرته الربانية.. والآن.. لماذا نزحمه؟؟ هل للتفاخر ببرابرتنا.. أم للتأكد من محبته الفائقة والتي نفينا أن المعجزة لا تدلل بحال عليها.. أم تشككًا في قدرته.. أم لإعلان أن مصلحتنا هي الأعلى وإننا سنصل حتى لو كنا في سبيل الوصول سندهس العديد من الضحايا مسحوقين تحت أرجل تصلفنا الأعمى وأنانيتنا المقززة؟؟ ألا يعد تشكيك في قدرته الفائقة.. وارداته العظيمة ان نربط المعجزة بمكان ما ونقاط للوصول؟؟ فهل الله لو ارتأى الحاجة للمعجزة.. فهل لن يتممها لشاول الطرسوسي في طريقه ويحوله الى بولس العظيم؟؟ وهل لو ارتأى ان هناك حاجة للمعجزة ألن يمكنه الذهاب الى السامرية قاطعًا نصف المسافة وملتقيًا معها..
هل المعجزة تناقض لإتمامها هذا الترتيب.. وتلك اللياقة؟؟.. أم إن المعجزة هي إخلال بالروحيات؟؟.. حتى إننا ننشد اللجوء إلى عمل صفقات وهمية مع السماء.. وكأني دفعت ثمن المعجزة حينما ألححت في طلبها بشكل يفتقر للروحانية؟؟
بل كيف يقول الكتاب “مقدمين بعضكم بعضاً في الكرامة” (رو 12: 10)
ثم تحدث المعجزة وتهبنا السماء بركات ونحن ندهس بعضنا البعض؟؟!! كم من مرة نضحت بعض الصور فى الكنائس والبيوت بعضًا من قطرات الزيت.. وكم مرة هرولنا ابتغاء الحصول على بركة ما.. أو فلنقل معجزة تغير مسار حياتنا.. وماذا بعد؟؟
الحقيقة إنني أتجاوز لأعلن أن السماء وإن أمطرت مثل هذه المعجزات التي يرددها البعض ولكن دون تغيير واضح فى حياة الفرد والمجتمع فأنها انتفت الرسالة والهدف وصارت المعجزات هي ظواهر ربما أحيانا خارقة لمفاهيمنا وتفوق إدراكنا للأمور.. وإنما بلا جدوى.. فصارت كتلك التي فعلها سحرة وعرافو مصر أيام موسى النبي.
فإن اتفقنا إن كل معجزة هي تمس النفس سواء كانت معجزة شفاء من مرض جسدى.. فهى تهدف أيضًا لتحويل الحياة الروحية للأفضل.. والارتقاء بالنفس
فإننا بحاجة ماسة لحدوث معجزة كبرى داخل النفس البشرية.. تلك المعجزة التى تجعل البشر يحيون في حياة محبة.. مقدمين بعضهم بعضًا في الكرامة.. محبين لبعضهم ما يحبون لأنفسهم.. يئن عضو فيتداعى الجميع فى أنين ووجع حقيقى لآجله.. في ارتقاء بطبيعتهم البشرية كيفما خلقها الله..
تلك هي المعجزة الكبرى التي أتمنى أن يلح جميعنا فى طلبها بلجاجة واضحة..
والتي أرى الحاجة إليها قصوى.. والتي أرى جميعنا يفتقر إليها
2/ 4/ 2012
تابع حسابنا على تويتر لتصلك موضوعاتنا الجديدة هناك بشكل يومي