إبداع خاصإيمان الكنيسةالإيمانالتاريخ الكنسيتأملات روحيةلاهوت مقارنملفات إيمانيةموضوعات مسيحيةمينا المصرينصوص أبداعية

شهداء دير المعترف في لقاء الأب المعترف

بقلم: مينا المصري

داخل الحافلة البيضاء الصغيرة، كانت حرارة شمس الصعيد القائظة تحرق آمال النساء القبطيات في نجاة رجالهن بالخارج، بعد أن ترجلوا من الحافلة تحت تهديد رشاشات الملثمين، لم يكن لديهم ثمة أمل في أن يغيثهم أحد في تلك المنطقة الوعرة عند منتصف مدق الأنبا صموئيل المؤدي إلى دير القلمون، وليس لديهم أي وسيلة لطلب النجدة حيث شبكات الاتصال مقطوعة تمامًا، كان الوضع ككابوس قاتم يجثم على أنفاسهن.

يتساءلن بقلوب منقبضة ما لهن ومال كل ذلك، لقد كُنَّ منذ قليل مع ذويهن يصلين ويرنمن في رحلتهم من قرية نزلة حنا بمركز الفشن ببني سويف على الطريق المعزول الغير الممهد لدير القديس الأنبا صموئيل المعترف، قبل أن تأتي تلك اللحيظة السوداء التي تظهر فيها عربات الدفع الرباعي البيضاء، لتلاحقهم على الطريق الرملي الذي تضطر فيه الحافلات للسير ببطء، فيفتح الملثمون الآلي على حافلتهم، ويطالبوهم في وعيد أما أن تقف الحافلة أو يتم قتلهم جميعًا.

لم يكن أمامهم سوى أقل من دقيقة، عليهم أن يحددوا أولوياتهم خلال ثواني معدودة، فأخذوا يشجعون بعضهم البعض على عدم إنكار الإيمان، قائلين لبعضهم البعض: “مهما فعلوا بنا لن ننكر مسيحنا”، “سوف نعيش ونموت مسيحيين”، ليستطيع بعدها الملثمين ذو الزي الموحد السيطرة على الحافلة، فصعدوا إليها وسألوهم بصيغة مباشرة: هل أنتم مسيحيون؟، فأجابوهم بالإيجاب، لينزلوا بعدها الرجال خارجًا.

وأوقفوهم في صف على الطريق وطالبوهم بنطق الشهادة الإسلامية فرفضوا، فأطلقوا النيران عليهم بغزارة، فبدأ صراخ النساء من الحافلة يعلو ليزداد هلع الأطفال، وكان صوت دقات قلوبهم السريعة يكاد يطغى على صوت صراخهم من الفزع، ولم يمحيه إلا صوت الرصاص الذي أنهى كل أمل كان لديهم في نجاة ذويهم، فتحول صراخهم إلى السماء “يا يسوع”، وكان هو الصراخ الوحيد الذي كان يصبرهم وهم يرجون نهاية سريعة لتلك الأهوال.

لم ترق قلوب الملثمين لصراخهم، فقلوبهم كانت أقسي من أحذيتهم القوية ذات الرقاب الطويلة، بل كانت طلقاتهم في رؤوس المغدورين مباشرة أو في سويداء قلوبهم، فهم قوم لا يمزحون فيما يتعلق بإزهاق الأرواح، ليصعدوا بعدها أيضًا للحافلة قبل أن يسترد الأطفال روعهم من هول الصدمة، وأطلقوا الرصاص بعشوائية على كل من فيها.

وقبل أن تجف دماء شهداء الحافلة حتى جاء ميكروباص يقل داخله أطفال من كنيسة العذراء في بني مزار، أمطروها الملثمين القساة بالرصاص، ليقتلوا بقلب بارد أطفال كانت زيارتهم إلى دير الأنبا صموئيل هي وسيلتهم الوحيدة للتنزه.

وعلى إثر ميكروباص الأطفال تأتي سيارة نصف نقل تقل عمال أقباط من دير الجرنوس في رحلتهم اليومية لمصدر رزقهم الوحيد في الدير، وما أن أبدل الملثمون خزائن بنادقهم حتى أطلقوا عليهم هم أيضًا وابلا من النيران ليردوهم قتلى، فاختلط دخان البارود بغبار دبة البيادات السوداء على الرمال.

وهنا قرر أصحاب البيادات الرحيل، ولم ينسوا أن ينهبوا الأموال ومصاغ النساء، بالإضافة للهواتف المحمولة، ثم بدأت عرباتهم تعصف الرمال عبر دروب الصحراء، وفروا بعد أن خلفوا وراءهم عاصفة هائلة من الرمال، ورائحة دم تملأ محيط بستان جبل القلمون.

. . . . . . . . . . . . . . .

وفي أرض الدماء.. كانت الكنيسة المجاهدة تصلي بالدموع إلى الرب الإله، وتصرخ في صلاتها من أجل شهدائها قائلة: “هذه النفس التي اجتمعنا بسببها اليوم، يا رب افتح لها باب الفردوس كما فتحته للص اليمين. افتح لها باب الراحة لتدخل وتتنعم هناك وتشارك جميع القديسين”

أما هناك.. في موضع آخر بعيد.. كان صوت هامس يدعو الأعضاء الجدد في الكنيسة المنتصرة.. صوت مريح ليس كمثله صوت.. أعذب وأرق من صوت هطول المطر مع نسائم الفجر.. في رحلة أخرى مفرحة تحلق بعيدًا عن مُعَاناة أهل الأرض.. فتبدو لهم الأرض حينها صغيرة جدًا.. أنها رحلة العبور إلى السماء الثالثة.. ليست سماء نجوم أو كواكب بل أروع وأسمى بما لا يقاس.. أنه ذلك الموضع الذي هرب منه الحزن والكآبة والتنهد.. فتقال الكلمات التي لا ينطق بها ولا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها.. ويكشف الله مجده للأبرار المنتقلين.. حيث الفردوس السمائي.

وبعد أن استوعبوا ما حدث لهم.. أعطي لكل واحد منهم ثوبًا جميلًا أبيض اللون.. وارتدوا جميعا أثوابهم الجديدة.. وأخذ شهداء دير الأنبا صموئيل يتأملون موضعهم الجديد لأول مرة منذ مجيئهم.. أنه فردوس حقا ولكنه ليس كباقي الفراديس.. أنه أبدع وأجود من كل البساتين وأفخم وأعظم من كل حدائق الأرض.. كان لسان حالهم يرنم قائلًا: حقا هذا هو المستقر الذي أعده الله لنا كي نرقب مجيئه الثاني.. ترى متى سيلحق أحبائنا بنا حتى يروا مثلنا هذا الذي نراه..

وهنا قدم إليهم يرحب بهم شيخ وقور ذو لحية بيضاء كثيفة، يحمل وجهه المتلألئ بالنور ملامح وديعة صافية، عرفوه أنه هو الأنبا صموئيل المعترف صاحب الدير الذين كانوا في طريقهم إليه، وقد جاء بنفسه لاستقبالهم، ودعاهم بإشارة من يده للذهاب معه قائلًا:
أهلا بكم أخوتي وأبنائي في الفردوس السمائي، هنا نستريح زمانًا يسيرًا حتى يأتي أخوتكم الباقيين أيضًا، فهو فقط مسكن مؤقت لنا إلى يوم الدينونة العظيم، فينتقم الرب لدمائكم ويتمم عدله الإلهي، ونلبس جميعا الأجساد الممجدة، وندخل معا إلى مدينة أورشليم السمائية.

ثم أخذ الأنبا صموئيل يسير بهم على ضفاف نهر تلمع مياهه بأنوار بهية لا تخبو.. وعلى جانبي مجرى النهر كانت تمتد شجيرات ذات ألوان مبهجة.. فنطق أحد الشهداء مسبحًا مشدوهًا بما يراه ويشعر به:
يا لعمق فرحتي.. يا لعظم أعمال الرب الإله.. ما أروع مجدك يا ربي.

فأبتسم الأنبا صموئيل قائلًا:
أن مجد الله الذي تراه الآن يا بني الحبيب لا يقاس بمجد الله الأبدي الذي سنراه في ملكوت السماوات.. أي المدينة العظيمة ذات الأبواب الاثنا عشر.. حيث نهرًا صافيًا لا يتعكر أبدًا لامعًا كالبلور من ماء حياة ينبع خارجًا من عرش الله المنير.. وفي وسط ساحة المدينة وعلى جانبي النهر تقوم شجرة الحياة التي تعطي بأوراقها شفاء للجميع.. 

فقالت إحدى الشهيدات متأملة:
لو يرى أحبائنا في الأرض ما نراه الآن.. آه لو يدرك الأقرباء الذين يخشون فراق أحبائهم كم هو نصيب الراحلين!.. لما حزنوا حتى على الفراق!

فأضاف شهيد آخر قائلًا:
بل آه لو يدرك المنشغلين بالعالم كم هم خاسرين!

فأكد الأنبا صموئيل على عبارته قائلًا:
حقا.. ما أفدحها خسارة!.. فماذا يفيد الإنسان لو ربح حتى العالم كله، ولكن خسر أبديته.. طوبى لكم، فالكنيسة قد أعدتكم جيدًا لتكونوا بهذا الثبات عند اختبار الإيمان.. وبالصواب فعلتم عندما فضلتم الموت لتأخذوا الحياة التي في المسيح.. فكما قال لنا السيد أن “من أراد أن يخلص نفسه يهلكها، ومن يهلك نفسه من أجلي يجدها. (مت 16: 25)

وهنا أنضم شهيد آخر للحديث قائلا باتضاع:
معظمنا يخشى الموت، وبعضنا يخشى بالأكثر آلام ورعب ما قبل الموت، لولا نعمة الرب الإله هي التي شملتنا وحفظتنا في تلك التجربة المرة.

فنظر إليه أنبا صموئيل في حنو وهو يقول:
ولهذا قال السيد أيضًا: “لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها، بل خافوا بالحري من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنم. (مت 10: 28).. ومن الذي يقدر أن يهلك نفوسنا سوى الذي يفقدنا إيماننا.. ولهذا فأنتم هنا الآن لأنكم أخترتم التمسك بإيمانكم في مواجهة الموت.

وهكذا واصلوا سيرهم وهم يتعارفون، حتى جلسوا سويًا عند جانب من النهر، حيث جدول تجري مياهه بين غصون الأشجار، لتتدفق المياه بعد ذلك عبر صخور لامعة، كان مشهدا ساحرًا خلابًا يهز الوجدان، وعلى إحدى تلك الصخور جلس الأنبا صموئيل بينهم يحدثهم والجميع ينظرون إليه مصغيين، وقد طلبوا منه أن يحكي لهم قصة جهاده بتفاصيلها، وأنضم إلى مجلسهم المبارك كثير من المنتقلين السابقين من أمكنة وأزمنة مختلفة.

وفيما هم جالسين يستمعون، أتت إليهم أصوات تسابيح ملائكية بالحان تخترق ثنايا القلب وتدخل أعماق الروح وتحلق معها النفس لأعلى ما يكون.. أنه ذلك الشعور الذي يرافق زخات دمع الفرح.. ولكن الدمع لم يعد يرافقه.. فهنا حيث لا تنسكب أي دموع.. بل تنسكب سكيبا حالة سكون وسلام قلبي كامل.. فما أروعه من هدوء.. وما أجمله من شعور صاف خال من أي ضغط أو توتر.. بدت لهم سنواتهم المضطربة التي عاشوها على الأرض صغيرة جدًا.. وباتوا يدركون حقيقة ومعنى وجودهم.. لقد صار وجودهم على الأرض مجرد حلم مزعج استيقظوا منه.. الآن صارت أرواحهم شفافة جدا.. كنقاء وشفافية مياه ذاك النهر الجاري جوارهم..

وعلى خلفية تلك التسابيح المبهجة، وخرير رقرقات النهر، أخذ الأنبا صموئيل يحدثهم، ويحكي لهم عن فترة حكم المقوقس لمصر، وكيف أنه كان حاكم مصر، وفي نفس الوقت كان البطريرك الدخيل المفروض على أقباط مصر من قبل الدولة الرومانية، وكيف كانت تلك الإمبراطورية منذ مجمع خلقيدونية تحاول بكل الطرق إخضاع كنائس الشرق لقبول طومس لاون أسقف روما وقرارات مجمع خلقيدونية.

ثم أنتقل بعدها للحديث عن البرابرة وإغاراتهم الدائمة على منطقة القلمون، وفيما هو يحكي سأله أحد الشهداء قائلا:
ومن كان نيرهم أشد عليك، البرابرة أم أتباع المقوقس؟

فأجابه أنبا صموئيل قائلًا:
لقد أخذوني البربر أسيرًا لديهم لمدة تقرب الثلاث سنوات، ورغم كل وحشيتهم لم أفقد عيني اليمنى على أيديهم، بل على يد جنود المقوقس، وقد تركت دير أنبا مكاريوس بشيهيت أيضًا تحت ضغط الاضطهاد العنيف الذي قام به المقوقس، وذلك رغم بقائي فيه قبل ذلك ستة عشر عامًا، وحتى عندما أرتحلت جنوبا لمنطقة دير القلمون والفيوم كان رجال المقوقس يبثون عيونهم في كل مكان للبحث عني، وحينما وجدوني كبلوني بأغلال وطوقوا يدي إلى الخلف وربطوا في عنقي سلسلة، ثم اقتادوني إلى المقوقس الذي أمر جنوده أن يضربوني بعنف.

فسأله أحد الشهداء في اشفاق:
وكيف أفقدوك عينك اليمنى يا أبي؟

فرد عليه أنبا صموئيل وهو يتذكر قائلًا:
حدث هذا عندما جاء رسول من المقوقس إلى الدير وجمع الإخوة الرهبان، وأتلى علينا رسالة المقوقس لنا كي نقبل طومس لاون، وهنا لم أحتمل سخافة ما أسمعه فنهضت من مجلسي وصرخت في وجهه: “ماذا تريد من الرهبان، لن نقبل قرارات مجمع خلقيدونية ولا طومس إمبراطور، وليس لنا بطريرك إلا أبينا القديس أنبا بنيامين” ثم أخذتني غيرة الرب فطلبت رسالة المقوقس ولما أخذتها قلت لآبائي الرهبان: “لا تقبلوا هذا الطومس. محروم مجمع خلقيدونية ومحروم لاون المخالف، ومحروم كل من يؤمن بإيمانه” ثم مزّقت رسالة قبول طومس لاون وقولت: “ملعون من يغير الأمانة المستقيمة التي لآبائنا القديسين”، وهنا اغتاظ رسول المقوقس، فأمر جنوده بتعذيبي بوحشية، وانهالوا عليا ضربا بالسياط، وأثناء ضربي أصابت إحدى الضربات عيني اليمنى ففقأتها.

فرد عليه الشهيد صاحب السؤال:
لقد عانيت كثيرًا يا أبي من أجل الإيمان المستقيم.

فقال له أنبا صموئيل باستنكار:
وماذا تأتي معاناتي بجوار معاناة شعب الإسكندرية، حينما اجتاح جنود الامبراطورية مدينتهم لفرض طومس لاون عليهم، وكان جزاء رفضهم سقوط 30 ألف شهيد!، الإيمان لا يقدر بثمن ولا يعادله أي شيء، ودائمًا ما كنت أقول لتلاميذي أنه جيد لنا أن نقيم زمان حياتنا كلها متعبين مع الأمانة المستقيمة التي لآبائنا الأرثوذكسيين من أن نتركها ونشارك مخالفي الإيمان.

وهنا سأله شهيد آخر في فضول:
آمين يا أبي.. ولكن كيف أنتهى طغيان المقوقس؟

فأجابه أنبا صموئيل بابتسامة خافتة:
وكأن المقوقس لم يشأ ان يترك مصر في سلام أبدًا، فعندما جاء غزو العرب لمصر، ذهب المقوقس ورجاله للتفاوض مع رسلهم، وانتهى التفاوض بالاستسلام ودفع الجزية، واجتمع المقوقس مع عمرو بن العاص وتقرر الصلح بينهما بوثيقة تعطي الأمان للأقباط، ولكل من أراد البقاء بمصر من الروم، مقابل أن يدفع كل قبطي الجزية ماعدا الشيوخ والنساء والأطفال، ليبدأ بعدها عصر جديد طويل من الاضطهاد المرير.

فعلق أحد الشهداء قائلًا:
ولا زلنا نعاني آثار ذلك الاضطهاد في بلادنا حتى اليوم.

فأومئ له الأنبا صموئيل برأسه مؤكدًا ثم ختم حديثه قائلًا:
كان هذا حال الإيمان في زماني، فلتخبروني أنتم عن حال الإيمان في زمانكم؟

فقال له أحد الشهداء وهو رجل بسيط أربعيني وقور:
ما أعتقده يا أبي أنكم تعرفون أخبار ما يحدث لنا على الأرض..

فقال له الأنبا صموئيل مبتسمًا:
بالطبع نعرف.. فدائمًا كنا نشعر بكم ونصلي من أجلكم، ونتابع أخباركم من عصر إلى عصر، ولكني في حاجة لأن أستمع إليكم بذهن خالي تمامًا من أي معرفة مسبقة لدي، حتى أرى الأحداث بمنظوركم أنتم، أيضًا يعنيني أن أعرف عن أخر ما وصل له حال الإيمان في عصركم؟، إلى أين وصلت الكرازة بخلاص المسيح؟، وماذا تفعلون في مواجهة البدع التي يدسها إبليس في حربه على الكنيسة؟

فأجابه الأربعيني الوقور:
مع الأسف يا أبانا.. لم نعد نرى كرازة بالمسيح إلا نادرًا، وذلك بحجة التعرض للاضطهاد، فكل من يتكلم عن المسيح في بلادنا سواء بقصد أو بغير قصد يتم توجيه تهمة إليه أسمها “التبشير”!، وكأن الدعوة إلى الإيمان بالمسيح قد أصبحت جريمة تستوجب العقاب.. توجد أيضًا قضية أو قد تكون زوبعة.. لا أعلم.. ولكن يتجادل عنها كثير من الناس حولنا الآن، بخصوص قبول معمودية الكاثوليك.. وفي الحقيقة لا أعرف ما هي المشكلة بالضبط..

فأكمل شاب ثلاثيني من الشهداء يبدو عليه وعلى لغته بعض من الوعي بما يتحدث عنه:
بالنسبة للكرازة بالمسيح فهي تواجه بشدة في الشرق والغرب، في الشرق تواجه بالسجن والقتل، وفي الغرب تواجه بالسخرية والتسفية.. وللأسف كثير من المسيحيين في عصرنا لا يهتمون بالكرازة أصلا، وذلك لأنهم أصبحوا يعتقدون أن الجميع سيخلص سواء بالمسيح أو بدونه، وأنه توجد طرق أخرى كثيرة للخلاص بغير المسيح!..

وكان من بين المنضمين للجلسة من المنتقلين السابقين أحد الآباء اللاهوتيين يدعى الأب مرقس وقد تنيح قريبًا، فدخل في الحوار معلقًا على كلام الشاب قائلًا:
نعم.. وهناك اتجاه عالمي يتم الترويج إليه للوحدة بين كل الأديان والمذاهب والطوائف مدعين أن كل هذه الأطياف تعبد إله واحد.. وقد استطاع تيار الوحدة المسكوني هذا أن يُسقط معظم الكنائس التقليدية المحافظة بعد أن زرع رجاله داخلها.. وصمود الحق الكتابي قد يتوقف على صمود الكنيسة القبطية ومثيلاتها في الإيمان في مواجهة هذه الاختراقات.

فأكد الشاب على كلامه قائلًا:
نعم لقد سمعت عن مثل هذا الشيء.. وإن كنت لم أفهم بالضبط ما الهدف منه.. الجميع يدعو للوحدة بين كل الطوائف وغض النظر عن الاختلاف في الإيمان.. أسمع وأرى إلحاح على كلمة “الوحدة” بشكل يثير الريبة بالفعل.

ظهر تعجب على وجه الأنبا صموئيل فيما أستكمل الشاب حديثه قائلا:
أما بالنسبة لموضوع المعمودية فكان هناك انقسام لدينا حول مسألة هل تقبل الكنيسة القبطية معمودية الكاثوليك أم لا؟.. بحيث لا يحتاج أي منضم من كنيستينا للأخرى أن تعاد له المعمودية.. كانت هناك حسرة وغضب عند البعض بسبب تلقيهم خبر أن الكنيسة قد وافقت على قبول المعمودية.. ولكن بعدما تم تعديل القرار لصالح عدم قبول المعمودية وأعلنت الكنيسة أنها مازالت تسعى في هذا الطريق حتى غضب البعض من الطرف الآخر المؤيد لقبول المعمودية وهاجم الكنيسة القبطية وآبائها..

نظر الشاب للأسفل أسفًا ثم استكمل السرد قائلًا:
والبعض أتهم الكنيسة القبطية بالتعصب، وبأنها كانت سبب الانقسام قبل خمسة عشر قرنًا بسبب كبريائها!، وأنها ترفض أي تجديد في فكرها اللاهوتي كي تستطيع أن تواكب العصر.

صمت الأنبا صموئيل برهة ثم قال بهدوء:
تعصب.. وما دخل التعصب هنا؟.. وهل نملك الإيمان حتى نتصرف فيه كما نريد؟، وأي تجديد يقصدون؟، المسيحية لا تعرف شيء أسمه التجديد اللاهوتي، بل تعرف وتؤمن فقط بالإيمان المسلم مرة واحدة للقديسين، لذا فالإيمان هو وديعة استلمناها وليس من حقنا التغيير فيها.. وهل التمسك بالإيمان والحفاظ عليه يمكن أن يطلق عليه كلمة تعصب؟!.. من الواضح أنكم في عصر يحتاج لإعادة بناء المفاهيم لأبسط الكلمات..

فعلق الأب مرقس مؤكدًا في تأثر:
نحن يا أبينا قد أتينا من عصر قد تشوهت فيه كل المفاهيم قبل الكلمات، وازداد الجهل بكلمة الله رغم تنوع سبل المعرفة، والوضع يزداد سوءا جيلًا بعد جيل، نحن تقريبًا على مشارف عصر الوحدة مع بليعال..

فخاطبه الأنبا صموئيل بلهجة مطمئنة:
ثق أيها الأب الغيور أنه مهما كان الوضع سيئًا، فأن الرب الإله لا يترك نفسه بلا شاهد، وعلى مر الزمن في كل عصر كانت توجد سبعة آلاف ركبة لم تنحني لبعل..

ثم أردف الأنبا صموئيل قائلا في تعجب:
ولكن ما يهمني الآن الحديث بشأنه هو مسألة قبول المعمودية.. عن أي قبول معمودية تتحدث؟! هل رُفعت الحرمانات؟ وهل تخلت كنيسة رومية عن المعتقد الخلقيدوني وعن فكر طومس لاون؟.. لقد مزقت رسالة قبول هذا الطومس الذي كتبه لاون أسقف روما المحروم، وقد حرمه أيضًا أبينا القديس البابا ديسقوروس، فهل كان تمزيقي له عبثا؟، وهل جهاد القديس ديسقوروس ضد مجمع خلقيدونية كان باطلا؟، وهل كان جهاد القديسين ساويرس الأنطاكي ويعقوب البرادعي وفيلوكسينوس المنبجي باطلًا أيضًا؟، وماذا عن دماء الثلاثين ألف شهيد من شعب الإسكندرية.. هل ذهبت هباء كالماء؟!

فقال الشاب في حماسة:
لا يا أبانا.. فالأمر استفحل ولم يعد الاختلاف فقط بخصوص طومس لاون هذا.. لقد تعلمت الكثير عن هذه الاختلافات في مدارس الأحد منذ صغري.. ففي القرون التالية لزمنك يا أبي دخلت على كنيسة روما الكثير والكثير من البدع.. بدأت ببدعة أن الروح القدس منبثق من الآب والابن، وليس فقط منبثق من الآب، كما ينص قانون الإيمان المسيحي، وبهذا أصبح حتى قانون إيمانهم يختلف عنا.

فعلق الأب مرقس قائلًا:
كان ذلك في عام 1054م.. أنهم مع الأسف يخلطون بين انبثاق وإرسال الروح القدس، فانبثاق الروح القدس من الآب كان منذ الأزل قبل كل الدهور، فهو فعل أزلي ومستمر، أما إرسال الروح القدس من الابن كان في يوم الخمسين على التلاميذ، أي أنه فعل تحت الزمن وفي توقيت محدد، وهذا كما أخبرنا رب المجد قائلًا: “ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب، روح الحق، الذي من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لي” (يو 15: 26).

ثم استكمل الشاب حديثه قائلًا:
يؤمنون أيضا أن السيدة العذراء مريم قد حبل بها بلا دنس مثل المسيح، وبالتالي فهي لا تحتاج للخلاص مثلنا، مع أن الكتاب أكد مرارًا أن المسيح هو الوحيد القدوس الذي بلا خطية، والسيدة العذراء نفسها قالت في تسبحتها “تعظم نفسي الرب، وتبتهج روحي بالله مخلصي” (لوقا 1: 46 -47) إذن فهي أقرت بأنها تحتاج للخلاص مثل باقي البشر.. اليس كذلك؟

فأكد على كلامه الأب مرقس قائلًا:
هذا صحيح.. بل ووصل بهم الأمر إلى تأليه العذراء مريم، واعتبارها شريكة للمسيح في الفداء، وبعض رجالهم يزعمون بأنها تقود الكنيسة حاليا بدلا عن الروح القدس، وتوجد الكثير من الكوارث الإيمانية بخصوص هذا الأمر فيما يسمى لديهم باللاهوت المريمي.

ثم أضاف قائًلًا:
بالإضافة أيضًا لاعتقادهم ببدعة المطهر، وهي بدعة خطيرة تزعم أن الإنسان بعد موته يقضى فترة من العذاب في المطهر ثم بعد ذلك ينتقل إلى النعيم، ويصفون السيدة العذراء مريم بأنها سيدة المطهر!، إذن وما فائدة فداء المسيح؟!.. هذه البدعة تضرب عقيدة الفداء تمامًا، وتلغي عمل المسيح الكفاري، فدم المسيح يخلصنا من كل خطيئة، لأنه لا توجد مغفرة إلا بدم المسيح، وكما قال معلمنا يوحنا الرسول “دم يسوع المسيح ابنه يطهرنا من كل خطية” (1 يو 1: 7).

فأضاف الشاب أيضًا:
أعرف أيضًا أنهم لا يعمدون بالتغطيس مثلما تعمد المسيح في نهر الأردن، ومثلما تعمد الخصي الحبشي على يد فيلبس، بل يعمدون بالرش على حد علمي.

فعقب الأب مرقس مؤكدًا:
نعم، أو يمكن أن نقول أيضًا أنهم يعمدون بالسكب.. ولكن للدقة والأمانة هذا يحدث بالأكثر في الغرب، رأيتهم في أوروبا يعمدون بسكب الماء على رأس الطفل من إناء صغير يشبه محارة بحرية قد ترمز للإلهة الرومانية فينوس، كما أنهم يقبلون أن يقوم أي شخص بالتعميد حتى لو كان هذا الشخص غير مسيحي أصلا.

لمعت عينا الأنبا صموئيل في دهشة ثم أومئ برأسه للأب مرقس كي يكمل حديثه، فاستكمل الأب مرقس حديثه قائلًا:
ولكن في رأيي أن أخطر بدعة وقع فيها الكاثوليك هي عصمة بابا روما عن الخطأ!، لأن كل باباواتهم عندما أدخلوا تلك البدع الخطيرة لم يستطع ولم يجرؤ أحد أن يخطئهم، لا في حياتهم ولا بعد مماتهم، وذلك بحجة عصمة البابا.. أيضًا هم يعتبرون القديس بطرس الرسول هو خليفة المسيح على الأرض، ويزعمون زورًا أن بطرس هو مؤسس كنيسة روما، رغم أنه لا توجد آية كتابية واحدة تتحدث عن زيارة القديس بطرس لروما، بل أن كل الأدلة الكتابية والتاريخية تشير إلى أن بولس الرسول هو مؤسس كنيسة روما، ولكن كان كل هدفهم من هذا التدليس هو إثبات أن بابا روما هو خليفة بطرس الرسول، وبالتالي حسب اعتقادهم يكون بابا روما هو خليفة المسيح على الأرض، وله الرئاسة على كل الكراسي الرسولية، وهو أيضًا البابا المعصوم من الخطأ!

كان الأنبا صموئيل يستمع إلى حديث الشاب والأب مرقس في صمت، حتى جاء حديث الأب مرقس في هذه النقطة فعلق قائلًا:
لقد بدأت هذه النزعة للرئاسة في كنيسة روما مبكرًا، وقد رأيتها بشكل خاص في البابا لاون، خاصة حينما وصفوه الموفدون الذين أرسلهم لمجمع خلقيدونية بأنه “رئيس أساقفة جميع الكنائس”، بالتأكيد هذه الفكرة الفاسدة كانت السبب الرئيسي لكل تلك البدع والهرطقات.

ثم أشار الأنبا صموئيل بيده للأب مرقس كي يكمل حديثه، فقال الأب مرقس:
أيضًا تقوم كنيسة روما بمنح غفران للخطايا مقابل زيارات أو تلاوات معينة!.. ومؤخرًا قبل رحيلي عن العالم بقليل قرأت أن البابا فرانسيس وهو البابا الحالي قد قرر بمناسبة الذكرى المئوية لظهورات سيدة فاطيما، أن يمنح الغفـران الكـامل لكل من يحجّ إلى مزار فاطيما في البرتغال!، أو لكل من يصلي أمام أي تمثال لسيدة فاطيما!، بالطبع مع تلاوة صلاة الأبانا وقانون الإيمان ثم الابتهال لسيدة فاطيما، وسيدة فاطيما بحسب اعتقادهم هي السيدة العذراء، ويؤمنون أنها ظهرت لثلاثة أطفال في مدينة فاطيما منذ مائة عام وأبلغتهم برسائلها إلى العالم، ومنها رسالة خاصة إلى روسيا!.. ولا أفهم من أين له أن يعطي ذلك الغفران الكامل مقابل زيارة مزار أو صلاة أمام تمثال لسيدة فاطيما بالذات؟!، لا توجد مغفرة إلا بالتوبة كما قال رب المجد: “إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون” (لو13: 5).

أبتسم الأنبا صموئيل في صمت، فأكمل الأب مرقس قائلًا:
صدقني يا أبي.. كل هذه البدع والخرافات لا تقارن بكارثة كبرى حلت على كنيسة روما أسمها “المجمع الفاتيكاني الثاني”، والذي انعقد بين عامي 1962م و1965م، وتناوب على رئاسته البابا يوحنا الثالث والعشرون والبابا بولس السادس، وفي هذا المجمع أقروا فيه بدعة خلاص غير المؤمنين والوثنيين وحتى عبدة النار بدون الإيمان بالمسيح، فلم يعد المسيح بالنسبة إليهم هو الطريق الوحيد للخلاص، أي لم يعد هو الحق.. فالحق نفسه أصبح في نظرهم شيء نسبي، وأنه لا يوجد دين أو مذهب يملك وحده الحقيقة الكاملة، هذا على الرغم من أن المسيح هو الذي عرفنا عن نفسه بقوله: “أنا هو الطريق والحق والحياة، ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي” (يو 14: 6)، وشهد عنه القديس يوحنا المعمدان قائلًا: “من يؤمن بالابن له حياة أبدية، ومن لا يؤمن بالابن لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله” (يو 3: 36).

وهنا أستوقفه الأنبا صموئيل عن الحديث، ليقول بصرامة وقد ظهرت نظرة اندهاش كبيرة على وجهه:
قال ربنا يسوع المسيح “اكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها من أمن وأعتمد خلص ومن لم يؤمن يدن” (مر 15:16، 16)، ما فائدة الكرازة إذن لو كان هناك خلاص بدون إيمان؟!، وإذا كانوا يؤمنون بخلاص غير المؤمنين فما لزوم المعمودية إذن؟، إذن هم بالتالي ينكروا أيضًا حتمية ممارسة سر المعمودية للخلاص!، وهنا قال الرب أيضًا: “إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله” (يو3: 5).

ثم أردف قائلًا:
وإذا كانوا يعتبرون أن القديس بطرس الرسول هو مؤسس كنيستهم، فلماذا لا يستمعون له حينما قال: “ليس بأحد غيره الخلاص. لأن ليس اسم آخر تحت السماء، قد أعطي بين الناس، به ينبغي أن نخلص” (أع 4: 12).

أومئ الأب مرقس برأسه أسفا وعقب قائلًا:
بكل أسف يا أبي.. تم إقرار هذه العقيدة في عام 1965م، وقد وافق عليها الأغلبية الساحقة للمجمع.

هنا علق شهيد أخر مستنكرًا:
إذن ما الداعي للاستشهاد أصلا، إذا كانت كل الديانات الأخرى ستؤدي للخلاص!

فأجابه الأنبا صموئيل في حسم:
أن كلمات الرب قاطعة “لا تضلوا لا زناة ولا عبدَّة أوثان.. يرثون ملكوت الله” (1كو 6: 9، 10)، و”أما الخائفون وغير المؤمنين والرجسون والقاتلون والزناة والسحرة وعبدَّة الأوثان وجميع الكذبة فنصيبهم في البحيرة المتقدة بنار وكبريت الذي هو الموت الثاني” (رو 21: 8)، كلمات الرب واضحة ولا تحتمل أي تأويل فكيف يمكن أن تكون “موافقة لهيكل الله مع الأوثان” (2كو 6: 16).

فقال الأب مرقس وكأنه تذكر شيئًا:
أنهم بالفعل يحاولون التوفيق بين هيكل الله والأوثان، وقد تنافس بابوات روما في ذلك، لدرجة أن أحدهم وضع تمثال بوذا على مذبح كنيسة روما.. ليس هذا فقط، بل حتى في الزواج، لقد سمحت كنيسة روما بالزواج المختلط، أي بالزواج من غير المؤمنين!

هنا علق الأنبا صموئيل قائلًا:
ليس لدي أي كلام أخر لأقوله في ذلك الأمر سوى ما قاله معلمنا بولس الرسول: “لا تكونوا تحت نير مع غير المؤمنين، لأنه أية خلطة للبر والإثم؟ وأية شركة للنور مع الظلمة؟ وأي اتفاق للمسيح مع بليعال؟ وأي نصيب للمؤمن مع غير المؤمن؟ وأية موافقة لهيكل الله مع الاوثان؟ فإنكم أنتم هيكل الله الحي” (2كو 6: 14، 16).

سادت حالة من الصمت على الجميع، وكأنهم يتأملون في كلمات الوحي التي تُظهر كم هي غيرة الرب الإله على شعبه، ثم قطع الصمت أحد المجتمعين مسبحًا بكلمات المزمور قائلًا:
“الرب عظيم هو ومسبح جدًا. مرهوب على كل الآلهة. لأن كل آلهة الأمم شياطين” (مز96)

ثم نظر الأنبا صموئيل إلى الأب مرقس موجهًا حديثه إليه قائلًا:
قبل أن أطرح سؤالي الهام على أخونا الشاب الغيور القادم إلينا حديثا، هل لديك يا أبانا شيء أخر تأخذه على كنيسة روما تريد أن تحدثنا عنه؟

صمت الأب مرقس قليًلا وهو يفكر.. ثم قال فجأة وكأن فكرة قد التمعت في ذهنه:
نعم يا أبينا الحبيب.. لقد انفتحت كنيسة روما على الفكر النقدي للكتاب المقدس، وتقريبا قد أسست ما يسمى بلاهوت التحرير، وهو لاهوت متحرر من كل شيء تقريبا، أخطر ما وصلوا إليه في كتاباتهم وأصبح لديهم من العقائد الرسمية، هو إيمانهم بأن أحداث سفر التكوين هي مجرد أساطير رمزية، وعلى رأسها قصة سقوط آدم وحواء، ويؤمن بهذا كبار بطاركتهم وكرادلتهم ومعلميهم المشهورين، ومكتوب في كتبهم ويدرس في مدارسهم.

أنهي الأب مرقس حديثه، فسأله الأنبا صموئيل قائلًا:
بالطبع يا أبانا أنت متيقن أن هذه البدع تمثل الفكر اللاهوتي لكنيسة روما حاليا؟، وأنها ليست فقط مجرد أفكار لأشخاص منشقين عنها؟

فقال الأب مرقس مؤكدا:
كل هذه البدع والانحرافات بل وأخطر منها أيضًا مذكورة بالتفصيل في وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني، وأيضًا مذكورة بشروحات كثيرة في كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، وهو الكتاب التعليمي الرسمي لعقائد الكنيسة الكاثوليكية، ولكن مع الأسف معظم الناس خاصة البسطاء لا يطلعون على مثل هذه الكتابات حتى يدركوا خطورة ما نتحدث عنه، بل يأخذون بما يرونه من ظواهر الأمور بتسطيح ولا يدخلون إلى العمق.

صمت الأنبا صموئيل برهة ثم قال بصوت عال في تأثر:
حي هو أسم الرب القدوس.. لقد تكلمت كثيرًا عن انحطاط آخر الأيام، ولكن لم اذكر أبدًا شيئًا يصل لمثل هذا الفجر والجور على كلمة الله، لقد انفصلت كنيسة روما عن الأمانة الأرثوذكسية منذ مجمع خلقيدونية المشئوم، وكم حاولوا إجبارنا على معتقدهم الفاسد بالقوة الباطشة، ولكن لم يكن قد وصل الانحدار إلى هذا الحد.

ثم أخفض صوته قليلا وقال:
حسنًا.. لنعود إلى القضية المثارة الآن بخصوص قبول المعمودية.

ووجه حديثه للشاب قائلًا:
على أي أساس يظن البعض أن الكنيسة من الممكن أن تقبل معموديتهم.. هل رجعت كنيسة روما عن تلك الانحرافات؟ وهل قدمت توبة عنها؟

فنظر الشاب إلى الأنبا صموئيل وهو لا يجد ما يقوله، فتكلم الأب مرقس قائلًا:
توبة! عن ماذا؟!.. لم يعد هناك أصلًا مفهوم الخطيئة التي تحتاج إلى توبة.. فالخطيئة في زماننا قد تحولت في أذهان الكثيرين إلى مجرد مرض يحتاج للعلاج..

ثم أردف بتأثر:
آه يا أبينا الحبيب!.. كم اشتقت لعبق رائحة كلمة الله التي أشتمها في عباراتك.. وكم اشتقت لصراحتك في الإيمان التي افتقدتها كثيرًا في عصرنا العصيب.. أنت يا آبي تحدثنا من عالم آخر بمنطق آخر يختلف تمامًا عن ذلك الزمن الرمادي الذي جئنا منه وعيشنا فيه.. فالأشياء التي تراها بديهية قد أصبحت في عالمنا مجرد عادات بالية سخيفة لا تجلب على المتمسك بها سوى السخرية.. أن كلماتك يا آبي، وكل كلمات الآباء الأوائل في الكنيسة، بل وحتى كلمة الله في الأسفار المقدسة، إذا قال بها أحد في عالمنا بدون أن يذكر مصدرها، سيبدو حديثه غريب على مسامع الجميع، ولن يتم النظر إليه إلا باعتباره مجرد رجلًا متعصبًا مجنونًا ضيق الأفق متحجر الفكر متصلب الرأس..

وهنا قال الأنبا صموئيل في صرامة:
كل هذه الاتهامات ليس لها أي قيمة عندي، ولا تساوي شيئا أمام الاضطهادات التي مرت بنا لكي نتخلى عن إيماننا ونخضع لقبول تعليم المخالفين، فلا محاباة في الإيمان، ولا جبن في مواجهة الباطل.

ثم أكد في حسم:
القانون الـ 19 من قوانين مجمع نيقية يحتم إعادة معمودية الذين قد تعمدوا على يد الهراطقة، هذا رغم أنهم قد تابوا عن هرطقاتهم، فكيف يكون الحال إذا لم يرجع هؤلاء الهراطقة عن هرطقتهم، حينها تكون إعادة المعمودية أكثر حتمية!

ثم قال بصوت منخفض متذكرًا متأملًا:
لست بمستغرب عن هذا الذي يتعرض له كل من يدافع عن الإيمان في زمانكم، لقد تكلمت عن هذا من قبل في حديثي عن آخر الأيام، وذلك حينما قلت: “إنهم يتركون قوانين آبائنا القديسين.. كل واحد يقيم لنفسه ناموسًا كما يشتهي.. وإذا تكلم أحد بغيرة مقدسة على القوانين الكنسية كان كأنه عدو يفتحون أفواههم عليه مثل الأسد”

وعاد ليقول بصوت واضح للجميع:
أن الإيمان الصادق المستقيم هو أساس المعمودية، وبغير ذلك ستكون قبول لمعمودية هراطقة على إيمان مخالف، فالإيمان الواحد يسبق المعمودية الواحدة كما قال الوحي على لسان معلمنا بولس الرسول، إذن فلنسأل أنفسنا سؤالًا فاصلًا وعلينا أن نجيب عليه بصراحة ووضوح: هل معمودية الذين يؤمنون بخلاص الوثنيين وينكرون حقيقة قصة الخلق تعتبر معمودية على إيمان مستقيم؟

وأجاب بنفسه على سؤاله قائلًا:
معمودية باطلة لأنها ليست على نفس الإيمان الذي تسلمناه، ويجب أن تعاد حتى لا تهلك نفس صاحبها.

فقال له الأب مرقس مؤكدًا:
ما قلته يا أبي هو عينه ما أكده القديس باسيليوس الكبير حينما قال: “المعمودية والإيمان هما طريقان للخلاص لا يمكن فصلهما لأن الإيمان يكمل المعمودية والمعمودية مؤسسة على الإيمان”، و هو أيضًا ما قاله القديس غريغوريوس النزينزي: “كل ماء مناسب للعماد شرط أن يجد إيمان الشخص الذي ينال المعمودية”، ولكن مشكلة كل من يدفعون لقبول معمودية الكاثوليك هو الخلط الخطير لديهم بين المبدأ المعروف بعدم إعادة معمودية الهراطقة الذين خرجوا عن الكنيسة ثم عادوا إليها مرة أخرى، وحتمية إعادة معمودية الذين تعمدوا على يد الهراطقة!، وذلك لأن معموديتهم لم تتم لا على أساس إيمان مستقيم، ولا من خلال كهنوت شرعي نعترف به!

ثم أردف وكأنه تذكر شيء هام:
البعض يا أبي.. مازال يقول عن حسن نية، أن الكنيسة الكاثوليكية أي كنيسة روما، هي كنيسة تقليدية مثلنا وتؤمن بالأسرار، والواقع أنه إذا كان الفكر البروتستانتي برفضه للتقليد والأسرار قد خرج خارج إطار الكنيسة تمامًا، فالفكر الكاثوليكي بعقائده الحديثة قد أصبح خارج إطار المسيحية أصلا، فكنيسة روما مع الأسف تنازلت عن الإيمان لكي تصالح العالم، وكي تكسب كل المجموعات الدينية والفكرية، فخسرت بذلك شعبها المسكين، وتحولت الكاثوليكية لكثير من الناس في بلدان كثيرة إلى مجرد ثقافة ينتسب إليها الشخص، ويفتخر بانتمائه إليها، حتى لو كان ملحدًا.. فالواقع هي مهددة بالانقراض في أماكن كثيرة، ورغم ضياع أتباعها فخطرها على الإيمان مازال يزداد ويتسع..

فقال الشاب بلهجة من أكتشف شيئًا هامًا:
هي بذلك تنازلت عن كل شيء.. فقط لم تتنازل عن أولوية ورئاسة بابا روما لجميع الكنائس.

فهز الأب مرقس رأسه موافقًا ثم أكمل قائلًا:
لقد وصل بها حد التنازل أنها في طريقها لقبول زواج المثليين أي الشواذ جنسيًا، فقد اجتمع السينودس الكاثوليكي لمناقشة إمكانية تحقيق المزيد من القبول للمثليين في الكنيسة، ولكن الأمر توقف أو تم تأجيله لأنه فقط لم يحصل على موافقة أغلبية أعضاء السينودس!، وقد تضايق البابا فرانسيس من هذا الرفض، لدرجة أنه وجه حديثه للتيار المحافظ في الكنيسة محذرًا من “التزمت العدائي” الذي يدفع بالتقيد بالنصوص وحرفيتها، وأن عليهم أن يفسحوا المجال لما أسماه “المفاجأة الإلهية”.

الأنبا صموئيل في حالة من الدهشة الكاملة:
ماذا؟! مفاجأة إلهية!.. ما الذي يعنيه بهذا؟.. هل يظن أن الرب الإله القدوس قد يغير نظرته إلى الخطية مثلا؟.. حاشا للرب!.. فهو كلي القداسة الذي لا يتغير.. ثم ماذا يقصد بما يسميه النصوص؟.. هل يقصد كلمات الوحي الإلهي في الأسفار المقدسة؟!

فأجابه الأب مرقس مكملا حديثه قائلًا:
نعم يا أبي.. والمفارقة العجيبة هنا، أن في الإصحاح الأول من رسالة معلمنا بولس الرسول إلى أهل رومية بالذات، أي أهل روما، يقول معلمنا بولس الرسول: “لذلك أسلمهم الله إلى أهواء الهوان، لأن إناثهم استبدلن الاستعمال الطبيعي بالذي على خلاف الطبيعة، وكذلك الذكور أيضا تاركين استعمال الأنثى الطبيعي، اشتعلوا بشهوتهم بعضهم لبعض، فاعلين الفحشاء ذكورا بذكور، ونائلين في أنفسهم جزاء ضلالهم المحق” (رو 1: 26 ،27)

بوجه متعجب لم يعلق الأنبا صموئيل، وصار في تأمل يعبث بيده اليمنى في مياه النهر بجانبه، فأعطى هذا مساحة للأب مرقس كي يستفيض قائلًا:
أعلم باندهاشك يا أبانا مما تسمعه.. ولكن هذا ليس جديدًا على كنائس الغرب، لقد سقطت كبرى كنائس الغرب البروتستانتية في كارثة قبول زواج المثليين أي الشواذ جنسيًا، بل وتزويجهم داخل الكنائس، بل ورسامتهم أساقفة.. مثل الكنيسة الأنغليكانية (الأسقفية) في بريطانيا، والكنيسة المشيخية (الإنجيلية) في أمريكا، والكنائس اللوثرية في شمال أوروبا، وغيرها للأسف.

أستمر صمت الأنبا صموئيل، وهو ما جعل الأب مرقس يزيد قائلًا:
بل وصل الأمر بإحدى تلك الكنائس وهي الكنيسة السويدية اللوثرية، أن ترسم امرأة مثلية من الشواذ تدعي “إفا براون” كأسقف على مدينة ستوكهولم عاصمة السويد، وقد طالبت هذه المرأة الأسقف مؤخرًا بإزالة جميع الصلبان عن منارات إحدى الكنائس، وأن يوضع بدلا منها إشارة إلى جهة مدينة مكّة، وذلك كخدمة للمسلمين حتى لا يشعروا بالإهانة!

وهنا تكلم الأنبا صموئيل أخيرًا موجهًا كلماته لجميع الجالسين قائلًا:
هذه يا أخوه هي كنيسة لاودكية التي جاء ذكرها في رؤيا معلمنا يوحنا الرسول، تلك التي استسلمت لرغبات شعبها الدنسة في التنعم، وبدأت في سلسلة من التنازلات عن القوانين الكتابية والكنسية، حتى أطاعت الناس أكثر من الرب الإله، ووصل بها الحضيض أن تصالحت مع العالم بأوثانه، ولهذا فأن معموديتها ليست فقط معمودية هراطقة، بل هي معمودية مسحاء كذبة، ولا يمكن قبول معموديتها إلا إذا تنازلت تمامًا عن كل تلك البدع، وقدمت توبة عن كل هذه القرون التي أكلها الجراد.

فقال له الأب مرقس:
هل تعلم يا أبينا الحبيب، أننا بالفعل قد دخلنا مع كنيسة روما في عدة حوارات لاهوتية، في محاولات يائسة لكي يتراجعوا عن تلك البدع.

فالتفت إليه الأنبا صموئيل وسأله باهتمام:
وهل وصلتم لأي شيء في تلك الحوارات؟ أي هل تراجعوا عن أي شيء من تلك الضلالات؟

أجابه الأب مرقس في أسف:
للأسف الحوار معهم لم يثمر شيئًا، لأنهم لا يلتزمون بتعهداتهم.. فقد اتفقنا مع كنيسة روما عام 1988م على حرمان كل من نسطور وأوطاخي، واتفقنا على صيغة كريستولوجية لطبيعة المسيح صاغها البابا شنودة الثالث، ومأخوذة عن تعليم القديس البابا كيرلس عمود الدين، كان ذلك في دير الانبا بيشوي بوادي النطرون، ولكن بعدها بست سنوات أقاموا اتفاق آخر مع الكنيسة الأشورية النسطورية التي كانت ومازالت تقدس الهرطوقي نسطور وتعاليمه، بل وتحرم القديس كيرلس عمود الدين!

فسأله الأنبا صموئيل مستنكرًا:
ما هذا العبث؟ هل أصبح الهدف الوحيد لديهم هو السيطرة على كل الكنائس، حتى لو كان هذا يعني التنازل على الإيمان؟!

فأجابه الأب مرقس قائلًا:
أستطيع أن أجيب بضمير مستريح نعم.. فكل ما يهم كنيسة روما هو جمع كل الكنائس تحت لواءها، وخضوع الجميع تحت رئاسة بابا روما، وقد نجحوا بالفعل في كثلكة عدد من الكنائس بكامل كهنتها وشعوبها، كالكنيسة المارونية على سبيل المثال، وقد سعوا جاهدين أيضًا لتحويل الشعب الأثيوبي الأرثوذكسي إلى الكاثوليكية أثناء الاحتلال الإيطالي لأثيوبيا، ونشكر الرب أن هذا الأمر لم يتم لهم كما أرادوا.

ثم أضاف مبتسمًا:
أتذكر أيضًا أنه عندما زار البابا شنودة الثالث عام 1973م مقر بابا روما في الفاتيكان، وكانت تلك هي أول زيارة يقوم بها بابا كنيسة الإسكندرية لكنيسة روما منذ الانقسام، حدث بعدها بشهور أن قام سفير الفاتيكان في مصر بزيارة للبابا شنودة، وأخبره أن كنيسة روما على استعداد أن تعطيه كل الكنائس والأديرة والمدارس الكاثوليكية في مصر مقابل فقط الاعتراف بأولوية بابا روما في الكنيسة، فرفض البابا شنودة أن يبيع خلاص أولاده مقابل هذه المباني قائلًا: “قيل للمسيح أعطيك هذه جميعها أن خررت وسجدت لي”.

فعلق الشهيد الشاب قائلًا:
ولهذا كنت أسمع البعض أحيانا يتهم البابا شنودة بالتعصب، لأنه كما سمعت منهم كان يرفض بشدة هذا النوع من الوحدة، في حين كانوا هم يعتبرون أن هذه الوحدة لابد أن تسبق مجيء المسيح.

فقال الأنبا صموئيل متسائلًا:
أي وحدة هذه؟.. ووحدة مع من؟!.. هل توجد وحدة كنسية غير مبنية علي وحدة الإيمان؟!.. ثم ما علاقة هذه الوحدة بالمجيء الثاني للمسيح؟، أن ما سيسبق مجيء المسيح هو حالة الارتداد العام، بل أن الرب تساءل قائلًا: “ولكن متى جاء ابن الإنسان، العله يجد الإيمان على الأرض؟” (لو 18: 8)، وقال معلمنا بولس الرسول في رسالته الثانية إلى أهل تسالونيكي: “لا يخدعنكم أحد على طريقة ما، لأنه لا يأتي إن لم يأت الارتداد أولًا” (2 تس 2: 3).. لذا في نهاية الأيام ستسقط زانية بابل وكل من يتبعها، هؤلاء الذين يقولون سلام وأمان ويفاجئهم هلاك بغتة لأنهم أنكروا دينونة الرب الإله للمخطئين.

فأضاف الأب مرقس قائلًا:
أنهم بالفعل يتنازلون عن الإيمان في سبيل تحقيق هذه الوحدة، وعندما يرون أي أسقف أو كاهن أو خادم يتجرأ ويتحدث بمنتهى التهذيب عن الاختلافات الإيمانية يهاجمونه بشراسة، ويتهمونه بالتعصب والانغلاق، بل ويطالبونه بالسكوت قائلين له أن هذا ليس وقته حتى لا تتعطل الوحدة!

فقال الأنبا صموئيل مستنكرًا ذلك:
فليصمت كل حديث إلا الحديث عن الإيمان، ولتتوقف كل محاماة إلا المحاماة عن الإنجيل وتثبيته، وليشهد عليهم تيموثاوس الأسقف في يوم الدينونة الرهيب، وكيف كان يوصيه معلمنا بولس الرسول قائلًا: “اكرز بالكلمة. اعكف على ذلك في وقت مناسب وغير مناسب. وبخ، انتهر، عظ بكل أناة وتعليم. لأنه سيكون وقت لا يحتملون فيه التعليم الصحيح، بل حسب شهواتهم الخاصة يجمعون لهم معلمين مستحكة مسامعهم، فيصرفون مسامعهم عن الحق، وينحرفون إلى الخرافات” (2تي 4: 2،4)

ثم أردف قائلًا:
وحتى مع شدة الاضطهاد الروماني العنيف للكنيسة في القرون الأولى، كان آباء الكنيسة وقتها يحاججون ويحاربون الهراطقة بكل ما في طاقتهم من قوة، ولم يقل أحد منهم أن هذا ليس وقته بسبب اشتداد نير السلطان الزمني!، هل تعلمون لماذا يا أخوتي الأحباء؟.. لأنهم يحفظون في قلوبهم وعقولهم جيدًا ما قاله رب المجد: “لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها، بل خافوا بالحري من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنم. (مت 10: 28).

فعلق الشاب مرة أخرى قائلًا:
للأسف يا أبي.. فحسبما رأيت، حينما يرد عليهم أي خادم بمثل هذا الكلام، لا يحاولون فهمه أو حتى مجرد التفكير فيه، بل يخبروه بأن كلامه هذا فيه عدم محبة للآخر.

فرد عليه الأنبا صموئيل قائلًا:
أي محبة.. المحبة الحقيقية تظهر لأحبائنا في خوفنا على حياتهم الأبدية؟ أما إذا خدعناهم وأوحينا لهم بأن لهم خلاص في طريق غير مستقيم، فسنقطع عليهم أي فرصة للحياة، فيطلب الرب دمائهم من أيدينا، لأننا سنكون فعلنا مثلما قال حزقيال النبي في نبوته قائلًا: “وشددتن أيدي الشرير حتى لا يرجع عن طريقه الرديئة فيحيا” (حز 13:22)، هذه محبة غير صادقة وغير آمينه، فالمحبة الأمينة لا تهدف إلا لنجاة المحبوب من الهلاك حتى ولو بالتوبيخ، كما قال الحكيم في أمثاله: “أمينة هي جراح المحب وغاشة هي قبلات العدو” (أم 27: 6).

ثم أردف قائلًا في استنكار بالغ:
ثم أي محبة تلك التي تكون أقوى من محبتنا للرب الإله؟!.. أليس من يحب الرب يحفظ وصاياه؟.. وماذا نفعل حينما نسمع صوت رب المجد قائلًا لنا في عتاب: “من أحب أبا أو أما أكثر مني فلا يستحقني، ومن أحب ابنا أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني” (مت 10:37) … هذه ليست محبة على الإطلاق، بل هي نفاق ورياء للظهور بصورة حسنة في أعين الناس، “افاستعطف الآن الناس أم الله أم أطلب أن أرضي الناس، فلو كنت بعد أرضي الناس لم أكن عبدًا للمسيح” (غل 1: 10).. حقا ما أكثر الطرق التي تبدو للإنسان أنها مستقيمة ولكن عاقبتها الموت.

فأكمل الشاب متأثرا بكلمات الأنبا صموئيل:
يقولون أيضًا أننا بهذه الطريقة نقسم جسد المسيح!، ويلومون على الكنيسة أنها لا تفعل شيئا إزاء ذلك وتترك جسد المسيح هكذا مكسورًا، وسمعت البعض الأخر يقول بالحرف أن علينا نلملم جسد المسيح حتى يعود واحدًا.

فاستنكف الأنبا صموئيل هذا الوصف قائلًا في صرامة:
من ذاك الذي يسمح لنفسه أن يتجاسر ويصف جسد المسيح بهذه التعبيرات المبتذلة؟!، ومن هذا الذي يستطيع بانشقاقه أن يقسم جسد المسيح!، أن جسد المسيح سيظل واحدًا مهما أنشق عنه آخرون بهرطقاتهم، أن الذي يخرج بفكر مخالف هو من يقطع نفسه من شركة الكنيسة أي جسد المسيح، وبالتالي هو أنشق عن الكنيسة ولم يعد جزءا منها لنتحدث عن تقسيم للجسد، وقد شبه رب المجد نفسه بالكرمة وشبهنا نحن بالأغصان، وقال إن الغصن الذي لا يثبت في الكرمة أي المسيح يُطرح خارجًا ويُلقى في النار ليحترق (يو 15).

ثم أضاف مُوضحًا:
أن معلمنا بولس الرسول عندما سأل مستنكرًا: “هل أنقسم المسيح؟” كان يتحدث عن التحزب لأشخاص، وهو الأمر الذي يفرق بين أعضاء الجسد الواحد، ولم يتحدث أبدا عن تجاهل الإيمان لصالح وحدة عالمية زائفة، فمعظم رسائل القديس بولس كتبها بهدف تصحيح عقائد خاطئة قام بنشرها هراطقة ظهروا مع بداية تأسيس الكنيسة، وانفصل هؤلاء المضلين والمُضللين بهرطقاتهم عن الكنيسة، وذلك بعد أن عزلتهم الكنيسة وفرزتهم من شركتها، أما عن الانقسام بسبب الإيمان فهذا هو ما شرحه رب المجد نفسه عندما قال: “أتظنون أني جئت لأعطي سلاما على الأرض؟ كلا، أقول لكم: بل انقساما” (لو 12: 51)، ويقصد بالانقسام هو ذلك العداء الشديد الذي نتعرض له من أعداء الإيمان، بل وحتى من أحبائنا وأقربائنا بسبب تمسكنا بالإيمان الذي يختلف عن إيمانهم.

ثم زاد في حديثه موجها كلماته للجميع قائلًا:
ما هذا المنطق المعوج والفاسد!.. هل يجب علينا أن نبغض الإيمان حرصًا على الوحدة مع أعداء الإيمان؟!.. هذا كذب وتضليل، ولا يجب على الكنيسة أن تنخدع أو تُرهب بهذه الأقوال، من يضحي بإيمانه بحثًا عن سلام زمني سيخسر سلامه الزمني والأبدي، ولهذا تحديدًا جاء قول المسيح أنه ما جاء ليلقي سلامًا بل انقسامًا، فسقوط البعض في الهرطقة يستدعي المجاهرة بالحق، فهل نترك الإيمان حتى نمنع الانقسام؟ وهل نبطل الكرازة بالحق خوفا من الانقسام؟! ولماذا لا يتنازلوا هم عن معتقداتهم المُحدثة تلك ويرجعوا للكنيسة من أجل اكتمال الوحدة؟! هذا ليس سوى سلام زائف ووحدة باطلة من صنع إبليس، وحدة عالمية قد تجمعنا معا بالفعل، ولكنها تفصلنا عن فكر المسيح، وتخرجنا نحن أيضًا من جسده، يا أخوتي لا شركة للنور مع الظلمة، والظلمة أساسها كل فكر دخيل على الكنيسة يخالف كلمة الله.

فقال الأب مرقس في تأثر:
الحق هو ما تقوله يا أبي.. وهذا عينه ما قاله القديس كبريانوس في حديثه عن وحدة الكنيسة حينما قال: “إذ ليس لنا نحن والهراطقة كنيسة واحدة، ولا إيمان واحد، ولا روح واحد، ولا جسد واحد فمن الواضح أنه لا يمكن أن تكون المعمودية مشتركة بيننا وبين الهراطقة”، ثم هاجم القديس كبريانوس هذه الوحدة المزيفة قائلًا: “أي وحدة هذه التي يحفظها وأي محبة يراعيها -ذلك الذي- يقسم الكنيسة ويدمر الإيمان”.

ثم صمت الأب مرقس برهة قبل أن يعود فيقول:
ولكن مع الأسف لقد نجح بعض اللصوص في نشر هذا الفكر المشوه عن الوحدة المسيحية بين صفوف الشعب والشمامسة والرهبان والإكليروس، وآبائنا في الكنيسة رغم حرصهم الشديد على الإيمان المستقيم، ولكنهم أيضًا حريصين على عدم الانقسام داخل المجمع المقدس لأجل سلام الكنيسة.

فقال الأنبا صموئيل مؤكدًا في يقين:
سلام الكنيسة من سلامة إيمان الكنيسة، والتضحية بالإيمان لأجل وحدة غير حقيقية هو أساس انقسام الكنيسة، كل انقسام وتفتت وانشقاق سببه هو التنازل عن الإيمان، وسر قوة ومتانة ووحدة كنيسة الإسكندرية بالذات هو في حرصها الشديـــد على التمسك بالإيمان، وحرصها الأشد على وحدة الفكر داخل الكنيسة.. والحفاظ على الإيمان هو أساس وحدة الكنيسة، وأما التنازل عن الإيمان لصالح السلام فهو كارثة أخر الأيام.

فقال له الأب مرقس متسائلًا:
وماذا يمكن للكنيسة أن تفعل في مواجهة هؤلاء السُرّاق؟ العقائد الأصيلة تم تسطيحها، والمفاهيم الأساسية تحورت وتبدلت، التعاليم الإلهية تم تجاهلها لصالح تعاليم زمنية مثل علم المشورة وعلوم تطوير وبناء الذات، فهذه ساعتهم وهذا زمنهم، وهو زمن صعب كثر فيه الكلام بالناعمات، وأتصف كثير من القادة بالميوعة وعدم الحمية، ماسكين العصا من منتصفها، منبهرين ببريق العصر الخادع، يقدمون للناس ما يريدونه من قشور لا ما يحتاجون إليه من تعليم دسم ونقي لازم لخلاصهم، وحتى إذا أهتموا بالتعليم فيقدمونه لذاته لا بهدف خلاص النفوس، وهكذا لا يفرقون بين تعليم الكنيسة العديم الغش وبدع الهلاك السامة المتدثرة برداء أكاديمي، وهناك أيضًا الكثير من القادة الصامتين الذين يرفضون المواجهة حتى لا تتلطخ ثيابهم في مطحنة الجدل اللاهوتي، وحتى لا يتم وصمهم بالتعصب والتخلف من أصحاب الألسنة الغوغائية، بل وحتى القادة الأمناء أنفسهم لم يعودوا قادرين على إزالة مرتفعات أو تكسير أنصاب، وكلما تحاول الكنيسة أن تحمي التخم القديمة من عبث الغافلين وذوي الأهواء، يأتي آخرون ليتهمونها بأنها انغلقت على نفسها وانعزلت عن العالم.

فأجابه الأنبا صموئيل قائلًا بلهجة حاسمة:
العالم كله قد وضع في الشرير، وسلطان الظلمة على صوته في الأرض حتى أصبح يصم أذان أهلها عن الحق، فهل تتنازل الكنيسة عن الثمين لتلحق بعالم زائل سينتهي؟!.. بالطبع لا.. فلا نجاة خارج الفلك مهما كثر عدد المستهزئين ومهما كثرت سخريتهم، وكل من يتنازل سيسقط، فلا تسقطوا مع الساقطين حتى لو كانوا نجوما لامعة في السماء، بل “ليكن الله صادقا وكل انسان كاذبا” (رو 3: 4).. ولهذا فأن على الكنيسة أن تثبت نظرها على المسيح ولا تلتفت لغيره، ترضيه وحده ولا تلتفت لإرضاء الناس، ولا تضع رجائها إلا على الإله الحي، عليها كذلك أن تحصن أولادها ضد مختلف البدع، ولا تربطهم إلا بطرق الخلاص، ولا تعرج بين الفرقتين، بل عليها أن تتحفظ غاية التحفظ في كل شيء، حتى في هذه الأمور التي قد تبدو في زمنكم أمور صغيرة، فالتنازل عنها هو كالثعالب الصغيرة المفسدة للكروم، فتلك المسماة كذبًا كنائس التي قبلت زواج الشواذ، هي بالضرورة قد بدأت بتنازلات قد تبدو لمن يعيشون في يوم بشر أنها أمور تافهة.. هذا عن الأشياء الصغيرة، فما بالكم بأمر خطير وجوهري مثل قبول معمودية المخالفين.

ثم أردف الأنبا صموئيل في تأمل:
الكنيسة الآن في حالة حرب شرسة مع إبليس، فكل ما يحدث الآن هو مجرد خطوات تسبق استعلان الأثيم، وزمن الحرب هو زمن بناء الأسوار الحصينة والحفاظ على أصغر الثوابت، وليس زمنًا لمد الجسور مع مخالفي الإيمان، بل هو زمن الفرز والغربلة، حيث يُفصل القمح عن الزوان، ويتم تمييز المؤمنين عن غيرهم ليكون المزكون ظاهرين، فلا يوجد وقت للتنعم أو للصمت، على الكنيسة أن تُخرج كل هذه الثعالب الرديئة لئلا تفسد كرم رب الصباؤوت.

وهنا قال الشهيد الشاب في تأثر بالغ:
يا ربي!.. لقد أدركت هنا ما لم أدركه من قبل طيلة حياتي على الأرض.. الآن فقط أدركت معنى الآية التي تقول “قد هلك شعبي من عدم المعرفة” (هو 4: 6).

فقال له الأب مرقس:
ولهذا قال القديس بولس الرسول مخاطبًا شعب مدينة فيلبي قائلًا: ” وهذا أصليه: أن تزداد محبتكم أيضًا أكثر فأكثر في المعرفة وفي كل فهم، حتى تميزوا الأمور المتخالفة، لكي تكونوا مُخلصين وبلا عثرة إلى يوم المسيح” (في 1: 9، 10).

فقال الشاب متأملًا:
كم أريد لكل من أحبهم أن يتمتعوا برحاب مجد الله، وأخشى عليهم أن يبهرهم العالم، بل وأخشى على الكنيسة كلها، ولهذا أريد أن أعرف..

وتابع حديثه وهو ينظر إلى الأنبا صموئيل متسائلًا:
هل يتاح لنا الآن أن نعلم عن مصير أحبائنا؟

نظر إليه الأنبا صموئيل وأبتسم ثم أجابه بنبرة حانية:
ليس لنا هذا، لأننا ليس لنا أن نعرف الأوقات والأزمنة التي جعلها الرب تحت سلطانه، ولكن لا تخف على الكنيسة، لأن الرب الساكن في السماوات يضحك ويستهزئ بهم، ويستخدم حتى مقاوميه في تنفيذ مشيئته، ما يمكن لنا فعله الآن هو أن نصلي من أجلهم.

ثم وجه ندائه في حب لجميع النفوس المجتمعين من حوله قائلًا:
هيا بنا يا أحبائي وأخوتي في الرب لكي نصلي ونشفع من أجل أخوتنا في الكنيسة المجاهدة لكي يعطيهم الرب رؤية وحكمة وقوة وصبر، فلنصلي معا..

فرفعوا أيديهم جميعا مصليين، مرددين بقلوب لحمية الكلمات التي يتلوها الأنبا صموئيل:

نطلب إليك يا رب المجد نحن الذين تحت المذبح بنعمتك، أن تقصر تلك الأيام الشريرة على الأرض من أجل أولادك المختارين..

نطلب إليك من أجلهم كي يداوموا على الصوم والصلاة، ويثبتوا في الإيمان، ولا يختلطوا أبدًا مع الزوان الرديء، ولا يغفلوا عن خلاص نفوسهم يومًا واحدًا، بل يحفظوا جميع وصاياك، كي يستطيعوا أن يطفئوا جميع سهام إبليس الملتهبة..

نجهم يا رب من كل نير وكل تجربة، نير الغلاء والوباء والزلازل والغرق والحريق وسبي الأعداء ومن سيف الغريب ومن قيام الهراطقة، نجهم يا رب من كل نير إلا من نيرك الهين وحملك الخفيف حتى يحفظهم من الشرير..

نطلب إليك يا محب البشر من أجل خلاص نفوسهم، أن يعيشوا في غيرة مقدسة، وأن يتحفظوا غاية التحفظ في كل شيء، لكي لا يسيروا في طريق يربعام وآخاب، بل يسيروا باستقامة أمامك..

حل يا رب المربوطين منهم، خلص الذين في الشدائد، الجياع أشبعهم، صغيري القلوب عزهم، الساقطين أقمهم، القيام ثبتهم، الضالين ردهم، أدخلهم جميعًا إلى طريق خلاصك، عدهم مع شعبك..

فرق يا رب أعداء الكنيسة وحصنها فلا تتزعزع إلى الأبد، وحل تعاظم أهل البدع المفتخرين لا بالرب بل بحكمتهم العالمية، فيتساقطون كأوراق الشجر ويذهبوا بعيدًا مع الريح..

نسألك يا رب أن تثبت أساس كنيستك المقدسة في زمان غربتنا إلى أن يأتي اليوم الأخير، ولا تتخلى عن شعبك إلى المنتهى، بل أنظر إليهم في ذلك الزمن الصعب، وأرسل إليهم معونتك السمائية فتنجيهم من الهلاك وتخلصهم..

أظهر يا رب مجدك سريعًا لكي نعاينه، أظهر يا رب الحق الذي هو أنت، لكي تدين الجميع بالعدل، وتنتقم لدمائنا ليظهر عدلك وصلاحك الكامل أمام جميع الأمم، وتجمعنا مع أخوتنا المباركين، لنلبس جميعًا أجسادًا ممجدة، وتأخذنا معك إلى أورشليم الجديدة. آمين

أنهي الأنبا صموئيل صلاته ثم نظر لجميع الحاضرين فإذ بهم مملوئين تعزية وفرحًا، فأبتسم قائلًا:
فلنكتفي الآن من ذلك الحديث عن أهل الأرض، فهنا لن تعودوا تضطربوا لأجل تلك الشئون، فقط كما فعلنا نصلي من أجلهم، ونشفع فيهم أمام الرب الإله لكي يثبتوا حتى النفس الأخير.

ثم وجه حديثه للشهداء الجدد قائلًا:
تعالوا معي لتكتشفوا المكان الذي أعده الرب لنا كي ننتظر مجيئه الثاني، لنسبح ونهلل بفرح عن عظائم الرب الإله ومجده الآتي.

ثم دعاهم للسير معه بابتسامة خاصة قائلًا:
هيا بنا يا أحبائي، ألا تريدون أن تلتقوا مع أحبائكم الذين رحلوا عنكم منذ زمن.

فذهب الشهداء معه في حماس ولهفة، ليكملوا سيرهم بجوار النهر، مسبحين ومرنمين بمجد الله، منتظرين يوم الرب بشغف واشتياق، ليدخلوا مع أحبائهم إلى المدينة المقدسة ذات الأسوار العالية المزينة بالياقوت والعقيق والزمرد.. أورشليم الجديدة.

لمتابعة الكاتب على فيسبوك

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى