الحياةثقافة وفنونقضايا عامةمختاراتمقالات رأيموضوعات عامةمينا المصري

«1984».. الكابوس البريطاني الذي تحول إلى مهزلة في مصر!

 

بقلم: مينا المصري

حازت رواية 1984 لـ “جورج أورويل” على شهرة واسعة في مصر، وذلك بعدما نشرت بعض الصحف المصرية خبرًا عن ضبط أجهزة الأمن بالجيزة لطالب في محيط جامعة القاهرة، لحيازته تلك الرواية للروائي الانجليزي الشهير، وذُكر في مقدمة الخبر أن الرواية تتحدث عن الأنظمة العسكرية الديكتاتورية، في إيحاء لقارئ الخبر بأن مضمون الرواية هو السبب المباشر في القبض على حاملها.

ورغم نفي الشرطة فيما بعد أن يكون حمل الرواية هو سبب القبض على الطالب، إلا أن البعض من الحقوقيين الذين هاجموا واقعة الضبط، عاد وقال إن الرواية قد يتم استخدامها فيما بعد كدليل ضد الطالب خلال التحقيقات. وهذا قد يكون جائز بالفعل، ولكن السؤال هو: هل كانت هذه الرواية هي الشىء الوحيد الذي كان يمكن استخدامه ضده؟.. فقد ذكرت التحقيقات أيضا أنه كان بحوزته كشكول يحوي عبارات عن كيفية تطبيق الخلافة الإسلامية في البلاد.

لقد كانت الرواية مجرد حرز، وليست سبب مباشر للقبض عليه، ومصادرة وتحريز المتعلقات الشخصية لأي متهم هو إجراء روتيني معتاد، وذكر الخبر أنه بالإضافة إلى الرواية والكشكول، كان بحوزته أيضًا من ضمن الأحراز: هاتفي محمول من دون بطارية، وهارد ديسك، و2 ريدر، وثلاث فلاشات!

أما عن السبب المباشر للقبض عليه فعرفناه بعدها بأيام، عندما نشرت ذات الصحف خبر عن قيام قطاع الأمن الوطني، بوزارة الداخلية، بصرف طالب رواية 1984 بعد انتهاء التحريات، وجاء تصريح اللواء محمود فاروق، مدير مباحث الجيزة، أن الطالب كان قد تم ضبطه عقب اشتباه الخدمات الأمنية به، في أثناء تصويره لقوات الأمن المتمركزة في محيط الجامعة، وبعد احتجازه وفحصه من قبل قطاعي الأمن الوطني، ومباحث الجيزة، تم صرفه دون العرض على النيابة، لعدم ثبوت أي اتهام ضده!

وقال مدير مباحث الجيزة في تصريحاته بالنص: “أن هذه الإجراءات المشددة سببها تكرار وقوع عمليات تفجير عن طريق الهاتف المحمول، خاصة أن المكان الذي ضبط فيه وقعت فيه تفجيرات من قبل، والمتهم كان الأمن عثر بحوزته على عدد من الهواتف دون بطاريات”.

لكن هذه التصريحات لم تغير من الأمر شيئًا، ولم تهتم بمناقشتها وسائل الإعلام، بل وحتى لم تعرضها، فالرصاصة انطلقت وأصابت الهدف، وانتشر الخبر كما تم نشره بالصيغة الأولى كالهشيم في النار، واشتعل الـ “فيس بوك” و”تويتر” تعليقا وسخرية بفكرة ملخصها أن من يدير مصر الآن هي “شرطة الفكر” الأورويلية (نسبة لجورج أورويل)، حتى أن الصفحة الرسمية لجورج أورويل على “فيس بوك” نشرت الخبر على هذا النحو.

وفي سعيها الدائم لزيادة ارتفاع الترافيك، تلقفت المواقع الإلكترونية الخبر في إنحياز معتاد للغة النميمة والأخبار الشعبوية، وتحول الحدث التافه الذي نشر بـ “عنوان مضروب” لا يعبر بصدق عن فحوى الخبر، إلى “خبر مضروب” في أصله ومتنه، أما رواد مواقع التواصل الإجتماعي فقاموا بمشاركة الخبر على صفحاتهم الخاصة لطرافته، مع تعليقات السخرية اللاذعة بالطبع، حتى انتشر الخبر “المصنوع” عالميًّا، وأعقب ذلك عرض برامج حوارية لتناقشه، ونشر مقالات كُتبّت لتحلله.

كما التقطت قناة الجزيرة الخبر واحتفت به، وأبرزته تحت عنوان ذو حمولة سياسية “الأخ الكبير في مصر يعتقل حاملي 1984″، وقد وجدتها فرصة جيدة للسخرية من نظام دولة تستهدفها إعلاميًا بشكل دائم.

وهكذا انتصرت ثقافة “الألش” المصرية الجديدة على أي محاولة جادة لتقصّي الحقيقة، وكان الوضع أقرب إلى المهزلة، حيث تم استحداث قضية حقوقية من لاشىء، وافتعال ضجة ليس لها معنى، ولم يكن لإعلام الدولة، بل والدولة نفسها بكل أجهزتها، أى دور حقيقي في توضيح ما حدث، لاحتواء القصة إعلاميا منذ البداية، قبل أن تثار بهذا الشكل المشوه محليًا ودوليًا، وهذا لا ينفي أن المناوئين للدولة هم من ساعدوا على هذا التشويه.

وإذا كان هنالك فائدة واحدة من هذه الضجة الإعلامية الهائلة، فهو بالتأكيد في زيادة نسبة قراءة الرواية في مصر، وانتشارها الكبير في وسط مجتمع لا يقرأ معظمه هذا النوع من الروايات الكلاسيكية في أسلوبها، و”1984″ تستحق ذلك بالفعل.. لما لا، وقد اختيرت من قبل مجلة التايم الأمريكية، ضمن أفضل 100 رواية كتبت بالإنجليزية.

ولكن هل حقا كانت الدولة في مصر بهذه السذاجة -كما يظن البعض- لتتعقب قراء رواية في عصر هيمنة التكنولوجيا الرقمية على حياتنا؟!، حيث المجال مفتوح على الإنترنت لقراءة أى نص ممنوع مهما كانت درجة الحظر عليه، وهل يعرف الذين شاركوا في صنع هذه الضجة أن الفكر السياسي لجورج أورويل متوفر ومتاح للقراءة داخل السجون المصرية؟!.. نعم، هذا ما عرفناه من تصريح للناشط البريطاني المسلم “ماجد نواز”، وهو حاليا أحد مؤسسي منظمة “كويليام” لمكافحة التطرف في بريطانيا، فقد ذكرت صحيفة “تليجراف” البريطانية أن نواز قرأ رواية “مزرعة الحيوان” أثناء قضائه السجن في مصر.

و”مزرعة الحيوان” هي رواية أخرى لـ “جورج أورويل”، وتسير على نفس النسق الفكري لرواية “1984”، فتهاجم هي الأخرى الأنظمة الديكتاتورية عامة، والشيوعية منها بشكل خاص، وذلك لموقف أورويل السلبي من الأنظمة الشيوعية، وقد يستطيع أي معارض لنظام الحكم في مصر أن يتهمه بأي شيء، لكنه بالتأكيد لا يمكن أن يدعي أنه نظام شيوعي!، أو حتى يساري الهوى.

وهكذا شرح “نواز” كيف غيرت “مزرعة الحيوان” آراءه المتطرفة والعنيفة، وكيف تحول بفكره إلى الديمقراطية الليبرالية، وذلك بعدما تأكد من استحالة إقامة عالم مثالي فاضل، كما كان يراه هو وزملائه من الجهاديين.

وهذه الرواية، والتي تلتها، تتحدثان عن الحركات الثورية التى تطيح بالحكومات الفاسدة، ثم تئول هي الأخرى إلى ذات الفساد عينه، وتتحول بالتدريج إلى نظام أكثر سلطوية بما لا يقاس بأى نظام شمولي وُجد في العالم، وغالبا ما استوحاها أورويل من تجربة روسيا المريرة بعد ثورتها البلشفية عام 1917، وهو ما يفسر منع الرواية بعد ذلك في الاتحاد السوفيتى.

أى أن الفكرة الرئيسة في “مزرعة الحيوان”، هي فساد الدولة علي يد قادة الثورة الذين استطاعوا الوصول إلى السلطة، و”أورويل” بهذا يشير بالتحديد للنظام البلشفي “الشيوعي” في روسيا، وهي نفس الفكرة التي ناقشها بعد سنوات في “1984”، ولكن بعمق أكبر، وبتركيز أكبر علي فكرة إلى أي مدى يمكن أن تصل سيطرة السلطة -أي سلطة- على عقل الفرد.

 والرواية التي نُشرت عام 1984، وتُرجمت إلى لغات عديدة، تعرض لنا من خلال أحداثها مجتمع شمولي يخضع لدكتاتورية فئة من الثوار، تحكم باسم “الأخ الأكبر” الذي يمثل هؤلاء الثوار وحزبهم الحاكم، ويبنى هذا الحزب كيانه وسلطته على القمع والتعذيب الوحشي والتزوير الممنهج للتاريخ، ويحصي على الناس كل حركاتهم وأنفاسهم، ويراقب كل العلاقات الإنسانية الخاصة للمحكومين، ويجرد عقل الفرد من أي فكر أو رأي شخصي، ويبرر كل هذا بحجة الدفاع عن الوطن والاشتراكية.

هذه الطريقة الفاشية في الحكم بالتأكيد لا تعبر عن الوضع السياسي في مصر، ولم يقترب الواقع من هذه الطريقة بالصورة الكابوسية التي جاءت في الرواية، إلا من خلال حكم القادة الفاشيين في الحرب العالمية الثانية مثل: ستالين وهتلر، وقد تشبه في بعض التفاصيل التجربة الحالية لدولة كوريا الشمالية، كما تنطبق إلى حد ما على حكم طالبان في كابول، ونستطيع أن نقول إنها متحققة الآن بشكل كبير في النموذج السلطوي لـ “داعش”.

وأخيرًا.. تأتي المفاجأة المدهشة في ختام هذه “الفقاعة” الإعلامية، مفاجأة لم يُسلط عليها الضوء إعلاميا بشكل كافي، هي أنه في نفس توقيت تلك الضجة المفتعلة، كانت الدولة تعيد ترجمة وطباعة رواية “1984”!، كان ذلك من خلال الهيئة العامة لقصور الثقافة، ضمن سلسلتها الشهيرة “آفاق عالمية”، وليت لكل الـ “فقاعات” الإعلامية هذا الحظ من حسن الختام.

لمتابعة الكاتب على فيسبوك

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى