البابا شنودة يجيب.. يحاربني فكر الإلحاد فماذا أفعل لتثبيت إيماني؟
ســؤال:
قدم لي أحد الشبان هذا السؤال، وأنا على باب الكاتدرائية:
“يحاربني أحياناً فكر الإلحاد، وأقاومه فيعود يشكوك كثيرة في وجود الله. فأرجو أن تساعدني على تثبيت إيماني، خوفًا من أن تتمكن الشكوك بإيماني“.
الجـواب:
إنها حرب مشهورة من حروب الشيطان. وهذه الأفكار التي تحاربك ليست منك، وإلا ما كنت تقاومها كما تقول. ولكن الشيطان عنيد لحوح، لا ييأس ولا يهدأ. وكلما يرد الإنسان على فكر من أفكاره، يعود مرة أخري ويضغط ويلح. لذلك يقول القديس بطرس الرسول “قاوموه راسخين في الإيمان” (1 بط 5: 9). ومع ذلك فإن وجود الله له إثباتات كثيرة. لعل في مقدمتها ما يسميه الفلاسفة أو المفكرون بالعلة الأولى، أي السبب الأول.
أي أن الله هو السبب الأول لوجود هذا الكون كله.
وبدون وجود الله، لا نستطيع أن نفسر كيفية وجود الكون.
وهكذا نضع أمامنا عدة أمور لا يمكن أن يفسرها إلا وجود الله. وهي وجود الحياة، ووجود المادة، ووجود الإنسان، ووجود النظام في كل مظاهر الطبيعة. يضاف إلى كل هذا الاعتقاد العام. ولنبدأ حالياً بنقطة أساسية وهي وجود الحياة.
وجود الحياة:
سؤالنا هو: كيف وجدت الحياة على الأرض؟
المعروف أنه مر وقت – كما يقول العلماء – كانت فيه الأرض جزءاً من المجموعة الشمسية، في درجة من الحرارة الملتهبة التي لا يمكن أي تسمح بوجود أي نوع من الحياة، لا إنسان ولا حيوان ولا نبات.
فمن أين أتت الحياة إذن؟ من الذي أوجدها؟ كيف؟
هنا ويقف الملحدون وجميع العلماء صامتين حيارى أمام وجود الحياة ولا أقصد حياة الكائنات الراقية كالإنسان، بل حتى حياة نملة صغيرة، أو دابة، أو أية حشرة تدب على الأرض … مجرد وجود حياة واحدة من هذه الحشرات يثبت وجود الله.
بل مجرد خلية حية أياً كانت، مجرد وجود البلازما ن يثبت وجود الله. لأنه لا تفسير له غير ذلك…
إن الحياة حديثة على الأرض، ما دامت الأرض كانت من قبل قطعة ملتهبة لا تسمح بوجود حياة. فالحياة إذن بعد أن بردت القشرة الأرضية. أما باطن الأرض الملتهب، الذي تخرج منه البراكين والنافورات الساخنة، فلا يمكن أن توجد فيه حياة. إذن كيف وجدت الحياة على الأرض بعد أن بردت قشرتها.
طبيعي أن المادة الجامدة، التي لا حياة فيها، لا يمكن أن توجد حياة. لأن فاقد الشيء لا يعطيه …
ويبقي وجود الحياة لغزاً لا يجد له العلماء حلاً
حله الوحيد هو قدرة الله الخالق الذي أوجد الحياة … وإن كان هناك تفسير اَخر، فليقدمه لنا الملحدون أو علماؤهم … ذلك لأن الكائن الحي لا بد أن يأتي من كائن حي. ومهما قدم العلماء من افتراضات خيالية، فإنها تبقي مجرد افتراضات لا ترقي إلى المستوي العلمي. بعد الحياة، نتكلم عن إثبات اَخر وهو وجود المادة.
وجود المادة:
ونعني به وجود هذه الطبيعة الجامدة وكل ما فيها من مادة …
لا نستطيع أن نقول إن المادة قد أوجدت نفسها
فالتعبير غير منطقي. إذ كيف توجد نفسها وهي غير موجودة؟ كيف تكون لها القدرة على الإيجاد قبل أن توجد؟ إذن هذا الافتراض مستحيل. لا يبقي إذن إلا أن هناك من أوجدها. فمن هو سوي الله؟
ولا يمكن أن نقول إنها وجدت بالصدفة كما يدعي البعض…
فالصدفة لا توجد كائنات. وكلمة (الصدفة) كلمة غير علمية و غير منطقية.. ويحتاج إلى تعريف. فما هي الصدفة إذن؟ وما هي قدرتها؟ و هل الصدفة كيان له خواص، منها الخلق؟!
كذلك لا يمكن أن نقول إن المادة أزلية! أو الطبيعة أزلية!
من المحال أن تكون المادة الأزلية. لأن الأزلية تدل على القوة بينما المادة فيها ضعف.
فهي تتحول من حالة إلى حالة، وتتغير من حالة إلى أخري. الماء يتحول إلى بخار، وقد يتجمد ويتحول إلى ثلج. والخشب قد يحترق ويتحول إلى فحم، وقد يتحول إلى دخان ويتبدد في الجو. كما أن كثيراً من المواد مركبة. والمركب هو اتحاد عنصرين أو عناصر، ويمكن أن ينحل ويعود إلى عناصره الأولي.
فالطبيعة إذن متغيرة، والتغير لا يدل على قوة. فلا يمكن أن تكون مصدراً لخلق مادة أخري.
كذلك فالطبيعة جامدة، وبلا عقل ولا تفكير، وبهذا لا يمكن أن تكون مصدراً للخلق.
وهناك سؤال هام وهو: ما المقصود بكلمة الطبيعة؟
أهي المادة الجامدة؟ أهي الجبال والبحار والأرض والجو؟ إن كانت هكذا، فهي لا تستطيع أن تخلق إنساناً أو حيواناً. فغير الحي لا يخلق حياً، وغير العاقل لا يخلق عاقلاً … فهل طبيعة الإنسان هي التي كونته ؟! وهذا غير معقول. لأنه لم تكن له طبيعة قبل أنه يكون، وقادرة على تكوينه!!
أم أن كلمه الطبيعة تدل على قوة جبارة غير مفهومة؟
إن كان الأمر كذلك، فلتكن هذه القوة غير المدركة هي الله، وقد سماها البعض الطبيعة. ويكون الأمر مجرد خلاف حول التسميات، وليس خلافاً في الجوهر. إن كل الملحدين الذين قالوا إن الطبيعة قد أوجدت الكون، لم يقدموا لنا معني واضحاً لهذه الطبيعة! نقطة أخري نذكرها في إثبات وجود الله، وهي الإنسان.
وجود الإنسان:
هذا الكائن العجيب، الذي له عقل وروح وضمير ومشيئة ولا يمكن أن توجده طبيعة بلا عقل ولا مشيئة ولا حياة ولا ضمير!! كيف إذن أمكن وجود هذا الكائن، بكل ما له من تدبير ومشاعر ؟! الكائن صاحب المبادئ، الذي يحب الحق والعدل، ويسعي إلى القداسة والكمال؟ لا بد من وجود كائن اَخر أسمي منه ليوجده … لا بد من وجود كائن كلي الحكمة، كلي القدرة، بمشيئة تقدر أن توجده …وهذا ما نسميه الله …
وبخاصة للتركيب العجيب المذهل الذي لهذا الإنسان.
يكفي أن نذكر بصمة اصابعه، وبصمة صوته.
عشرات الملايين قد توجد في قطر واحد. وكل إنسان من هؤلاء تكون لأصابعه بصمة تميزه عن باقي الملايين. فمن ذا الذي يستطيع أن يرسم لكل إصبع خطوطاً تميز بصمته. وتتغير هذه الخطوط من واحد لآخر، وسط آلاف الملايين في قارة واحدة مثل آسيا، أو مئات الملايين في قارة مثل افريقيا ؟! إنه عجيب !! لابد من كائن ذي قدرة غير محدودة، استطاع أن يفعل هذا …و ما نقوله عن بصمة الأصبع، نقوله أيضاً عن بصمة الصوت.. إنسان يكلمك في التليفون. فنقول له “أهلاً، فلان”. تناديه باسمه وأنت لا تراه، مميزاً بصمة صوته عن باقي الأصوات…
قدرة الله غير المحدودة تظهر في خلقه للإنسان من أعضاء عجيبة جدًا في تركيبها وفي وظيفتها…
المخ مثلاً وما فيه من مراكز البصر، والصوت والحركة، والذاكرة والفهم … إلخ. بحيث لو تلف أحد هذه المراكز، لفقد الإنسان قدرته على وظيفة هذا المركز إلى الأبد …! من في كل علماء العالم يستطيع أن يصنع مخاً، أو مركزاً واحداً من مراكز المخ؟! إنها قدرة الله وحده. ويعوزنا الوقت إن تحدثنا عن كل جهاز من أجهزة جسد الإنسان، وعن تعاون كل هذه الأجهزة بعضها مع البعض الآخر في تناسق عجيب. وأيضاً عن العوامل النفسية المؤثرة في الجسد. وعن النظام المذهل الموجود في تركيبة هذه الطبيعة البشرية. هنا وأحب أن أتعرض إلى نقطة أخري لإثبات وجود الله، وهي النظام العجيب الموجود في الكون كله.
نظام الكون:
إنك إن رأيت كومة من الأحجار ملقاة في مكان، ربما تقول إنها وجدت هناك بالصدفة. أما إن رأيت أحجاراً تصطف إلى جوار بعضها البعض، وفوق بعضها البعض، حتى تكون حجرات وصالات بينها أبواب ولها منافذ وشرفات… فلا بد أن تقول: يقيناً هناك مهندس أو بناء وضع لها هذا النظام …
هكذا الكون في نظامه، لا بد من أن الله قد نظمه هكذا. حتى ان بعض الفلاسفة أطلقوا علي الله لقب (المهندس الأعظم).
*ولنضرب المثل الأول بقوانين الفلك. وذلك النظام العجيب الذي يربط بين الشموس الكواكب، والذي تخضع له النجوم في حركتها وفي اتجاهاتها، مع العدد الضخم من المجرات والشهب … الأرض تدور حول نفسها مرة كل يوم، ينتج عنها النهار والليل. ومرة كل عام حول الشمس، تنتج عنها الفصول الأربعة. وهذا النظام ثابت لا يتغير منذ اَلاف السنين، أو منذ خلقت هذه الأجرام السمائية ووضعت لها قوانين الفلك التي تضبطها… لهذا كان علم الفلك يدرس في كليات اللاهوت، لأنه يثبت وجود الله، وبالمثل كان يدرس علم الطب، لنفس الغرض. نفس قانون الفلك نلاحظه في العلاقة بين القمر والأرض، التي تنتج عنها أوجه القمر بطريقة منتظمة من محاق إلي هلال إلي تربيع إلي بدر.. لكل هذا ما أجمل قول المرتل في المزمور:
“السماوات تحدث بمجد الله، والفلك يخبر بعمل يديه” (مز 19: 10).
ليس النظام الذي وضعه الله في الكون قاصراً على السماء وما فيها، إنما أيضاً ما يختص بالحرارة وضغط الهواء والرياح والأمطار. وكل هذا يحدث في كل بلد بطريقة منتظمة متناسقة، مع ما يتبعه من أنظمة الزراعة والنباتات.
بل ما أعجب ما وضعه الله من نظام في طبيعة النحلة وإنتاجها.
إنها مجرد حشرة. ولكنها تعمل في نظام ثابت ومدهش، وكأنها في جيش منتظم، سواء الملكة أو العمال، وتنتج شهداً له فوائد كثير جدًا، وبخاصة نوع غذاء الملكات ذي القيمة الغذائية الهائلة الذي يصنعونه فيما يعرف باسم Royal Jelly ويبيعونه في الصيدليات. وما أجمل ما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي عن مملكة النحل:
ممـــلكة مــــدبـرة بامـــــرأة مــــــــؤمـرة
تحمـل في العمـل والصنـاع عبء السيـطرة
أعـجـب لـعمــــــال يولون علـيهم قيــــــصرة
هذه النحلة في نظامها تثبت وجود الله. وشهدها الذي تنتجه -في عمق فوائده- يثبت هو أيضاً وجود الله. إثبات اَخر لوجود الله هو المعجزات.
المعجزات:
والمعجزات ليست ضد العقل. ولكنها مستوي فوق العقل.
ولكنها سميت معجزات، لأن العقل البشري عجز عن إدراكها أو تفسيرها.. وليس لها إلا تفسير واحد وهو قدرة الله غير المحدودة. هذه التي قال عنها الكتاب “كل شيء مستطاع عند الله” (مر 10: 27). وكذلك قول أيوب الصديق “علمت أنك تستطيع كل شيء ولا يعسر عليك أمر” (أي 42: 2).
والمعجزات ليست قاصرة على ما ورد في الكتاب المقدس، وإنما هي موجود في حياتنا العملية، وبخاصة من بعض القديسين.
إن لم يكن شيء من هذا قد مر عليك في حياتك أو في حياة بعض أقاربك أو معارفك، فاقرأ عنه في الكتب التي سجلت بعض هذه المعجزات في أيامنا، أو في حياة قديسين قد سبقونا مثل الأنبا ابرام أسقف الفيوم، أو أنبا صرابامون أبو طرحة، أو ما يتكرر حدوثه كثيراً في أعياد القديسين. فهذه الذكري تثبت الإيمان في قلبك …
نقطة أخري في إثبات وجود الله وهي الاعتقاد العام.
الاعتقاد العام:
الاعتقاد بوجود الله موجود عند جميع الشعوب، حتى عند الوثنيين: يؤمنون بالألوهية، ولكن يخطئون من هو الله…
بل وصل بهم الأمر إلى الإيمان بوجود آلهة كثيرين – وبعضهم اَمن بوجود إله لكل صفة يعرفها من صفات الألوهية – وعرفوا ايضاً الصلاة التي يقدمونها لله وما يقدمونه من ذبائح وقرابين…
والإيمان بالله مغروس حتى في نفوس الأطفال.
فإن حدثت الطفل عن الله، لا يقول لك من هو. وإن قلت له “لا تفعل هذا الأمر، لكي لا يغضب الله عليك”، لا يجادلك في هذا… إنه بفطرته يؤمن بوجود الله، و لا يهتز هذا الإيمان في قلبك أو في فكره، إلا بشكوك تأتي إليه من الخارج: إما كمحاربات من الشيطان أو من أفكار الناس. وذلك حينما يكبر ويدخل في سن الشك.
على أن الإلحاد له أسباب كثيرة ليست كلها دينية.
ففي البلاد الشيوعية، كان سبب الإلحاد هو التربية السياسية الخاطئة، مع الضغط من جانب الحكومة، والخوف من جانب الشعب. فلما زال عامل الخوف بزوال الضغط السياسي دخل في الإيمان عشرات الملايين في روسيا ورومانيا وبولندا وغيرها. أو أنهم أعلنوا إيمانهم الذي ما كانوا يصرحون به خوفاً من بطش حكوماتهم.
نوع من الإلحاد هو الإلحاد الماركسي. وقد وضعه بعض الكتاب بأنه كان رفضاً لله، وليس إنكارًا لوجود الله.
نتيجة لمشاكل اقتصادية، وسبب الفقر الذي كان يرزح تحته كثيرون بينما يعيش الأغنياء في حياة الرفاهية والبذخ، لذلك اعتقد هؤلاء الملحدون أن الله يعيش في برج عاجي لا يهتم بآلام الفقراء من الطبقة الكادحة!! فرفضوه ونادوا بأن الدين هو أفيون للشعوب يخدرهم حتى لا يشعروا بتعاسة حياتهم …
نوع آخر من الإلحاد هو إلحاد الوجوديين الذين يريدون أن يتمتعوا بشهواتهم الخاطئة التي يمنعهم الله عنها.
و هكذا لسان حالهم يقول “من الخير أن يكون الله غير موجود، لكي نوجد نحن” أي لكي نشعر بوجودنا في حقيق شهواتنا.. وهكذا سخروا من الصلاة الربانية بقولهم “أبانا الذي في السماوات”. نعم ليبقي هو في السماوات، ويترك لنا الأرض…
إذن ليس هو اعتقادًا مبنيًا علي أسس سليمة.
إنما هو سعي وراء شهوات يريدون تحقيقها…
قصة:
أخيراً أحب أن أقول لك قصة أختم بها هذا الحديث.
اجتمع مؤمن وملحد. فقال الملحد للمؤمن: ماذا يكون شعورك لو اكتشفت بعد الموت أنه لا يوجد فردوس ونار، وثواب وعقاب، بينما قد أتعبت نفسك عبثاً في صوم وصلاة وضبط نفس
فأجاب المؤمن: أنا سوف لا أخسر شيئاً، لأني أجد لذة في الحياة الروحية. و لكن ماذا يكون شعورك إن اكتشفت بعد الموت أنه يوجد ثواب و عقاب و فردوس و نار…؟
أما أنت أيها الابن العزيز، فليثبت الرب إيمانك.