إيمان الكنيسةالإيمانالبابا كيرلس السادسبدع حديثةموضوعات مسيحية

ردًا على بدع حديثة.. البابا كيرلس السادس يكتب عن عقيدة الفداء والكفارة.. والبدلية العقابية.. والعدل الإلهي

إن قضية الفداء أو الخلاص هي محور إيماننا ونقطة الارتكاز في ديانتنا، بدونها لا نفهم السبب الذي من أجله تجسد ابن الله لأن مسيح الله قد جاء من السماء خصيصًا لهذه المهمة التي لم يكن ممكنا لغيره أن يقوم بها.

فالخطيئة التي أخطأها آدم كانت عظيمة بهذا القدر، حتى أن نبيًا أو قديسًا أو رسولًا لم يكن في مقدوره أن يكفر وفاء للعدل الإلهي الذي حكم بالموت على آدم، ونحن نعلم أن الخطأ تقاس فداحته بمقام الذي أسئ إليه لا بمقام الذي أساء، وهكذا يقتضي العدل أن يكون وفاؤه في شخص غير محدود ليرد حق الله غير المحدود الذي أسئ إليه بمعصية آدم، لذلك لم يكن في سلطان ملاك أو قديس أن يقوم بعمل الكفارة وتغطية الخطأ الجسيم الذي وقع فيه الإنسان الأول، لأن المخلوق المحدود لا يكفر عن خطأ غير محدود.

وليس بخاف عليكم -يا أخوتي وأبنائي- أن الله كلي العدالة كما أنه كلي الرحمة، وعلى ذلك فلا معنى للظن أن التوبة من جانب الإنسان كافية لترضية العدل الإلهي، أن الله يغفر ولكن ليس من دون شرط، والذي يزعم غير هذا مخطئ كل الخطأ، وكأن الخطيئة أمر هين وكأن الله يساء إليه دائما وهو يغفر دائمًا من غير قيد!!، أي زعم هذا الذي يبنى على غير معرفة بطبيعة الله وحقيقة صفاته؟ أنه رأى ينطوي على فهم خاطئ واستهتار بالقدوس الكامل الذي يتطلب من المؤمنين أن يكونوا كاملين كما أنه هو كامل (مت 5: 48)، وأن يكونوا نظيره قديسين في كل سيرة (1بط 1: 15).

ولو كان الله يغفر من دون ترضية كافية لما رسم في شريعة العهد القديم أن يقدم الناس ذبائح عن خطاياهم، ولم تكن الذبائح الدموية كافية في ذاتها للترضية لكنها بينة على الطاعة للشريعة، ولم يتم بتلك الذبائح غفران حقيقي، لأن الغفران الحقيقي كان مؤجلاً إلى أن يأتي الوسيط الحقيقي وهو المسيح الفادي الذي ليس بغيره الخلاص (أع 4: 12)، وهو الذي جمع في شخصه وطبيعته إنسانية آدم ولاهوت ابن الله، وجمع المُسيء والمُساء إليه معًا وصالح الإنسان مع الله بأن قدم في ناسوته الترضية التي يتطلبها العدل الإلهي حتى يغفر للإنسان ذنبه الذي عصى به وصية الله.

وإذن لقد جاء المسيح من السماء من أجل أن يصلب فتتم بصلبه الترضية المطلوبة، ويعفى العدل الإلهي وتغفر الخطيئة الأولى التي أخطأها أبونا آدم الأول، قال السيد المسيح “الكاس التي أعطاني الآب ألا أشربها” (يو 18: 11) وهو يعنى كأس الصليب، وقال مرة أخرى “أيها الآب نجني من هذه الساعة ولكن لأجل هذا آتيت إلى هذه الساعة” (يو 12: 27)، وكان دائمًا يقول “أنه ينبغي لابن البشر أن يتألم كثيرًا، ويرذل من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويقتل ويقوم بعد ثلاثة أيام” (مر 8: 31، لو 9: 22)، وإذن فالصليب ضرورة. وموت ابن الله بناسوته أمر لا مفر منه لخلاص الإنسان من حكم الموت ولنجاته من سلطان الجحيم الذي ينتظره جزاء وفاقا على جريمته، فبالصليب تمت الكفارة ودفع الثمن المستحق وأشترى الإنسان من جديد فأنعتق من دائرة الشيطان الذي كان قد اقتنصه لإرادته (2 تى: 26)، على أن الخطأ الذي وقع فيه آدم قد شمل كل جنسنا ذلك أن آدم كان أبا للجنس البشرى ونائبا عنه، وفى آدم أخطأ الجميع. قال الوحي “بإنسان واحد دخلت الخطيئة إلى العالم وبالخطيئة الموت”، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس بالذي جميعهم خطئوا فيه” (رو 5: 12)، وعلى ذلك فلم تكن خطيئة آدم مجرد خطيئة شخصية ولكن الجنس البشرى كله قد سقط في آدم.

كان آدم يتمتع بميزات كثيرة عالية على الطبيعة، كان يتمتع بالصلاح والقداسة والطهارة والبراءة، وكان ينعم بسمو الفكر ودقة الفهم وسعة الإدراك وصفاء الذهن وقوة النفس، وكان يمتلك السيادة والقدرة على نفسه وعلى الطبيعة في شتى مظاهرها ومرافقها، وكان أيضا يعمل بلا تعب ولا مشقة ولا فشل كما كان عاليا على الضعف والمرض والموت، وبالإجمال كانت له عطايا كثيرة فوق الطبيعة وقد فقدها جميعا بسقطته، فانحطت نفسه وأظلم عقله وملكت على قلبه الشهوات والميول والانعطافات الجسدية والمادية، ودب إليه الضعف والانحلال والمرض والموت نفسًا وجسدًا.

وقد ورث الجنس البشرى كله حالة آدم بعد السقوط، لأن الجنس البشرى قد ولد من آدم بعد أن سقط وطرد من الجنة، وسقطت عنه كل المواهب العالية على الطبيعة التي كان يتمتع بها الإنسان قبل سقوطه.

هذه الوراثة مسألة طبيعية، وهى واضحة في مملكة الناس: فمن يحبل به من والدين في حالة مرضهما الوراثي يرث حالهما عن ولادته، ولا يستطيع أن يفلت من تبعات هذه الحالة ومقتضياتها لأنه ولد فيها.

ولعل الدليل الدامغ على أننا ورثنا حالة آدم الأول التي صار اليها بعد السقوط، هو أننا نعيش الآن لا في جنة عدن بل في أرض الشقاء نأكل خبزنا بعرق جبيننا، ولازالت المرأة تلد بالأوجاع أولادا، ومن من الناس يقوى على مغالطة نفسه حتى ينكر هذه الحقيقة الواقعة؟. ولقد ينظر بعض الناس إلى عقيدة الخطيئة الأولى أو الخطيئة الأصلية بنظرة قاتمة، ولكن في هذا هروب من الواقع وإنكار لحقيقة واضحة تنطق بها أفواه الناس وتصرفاتهم في كل يوم بل في كل لحظة من لحظات وجودهم “إذا الجميع قد خطئوا فيعوزهم مجد الله” (رو 3: 23)، وقد جاهر مار بولس بالقول “فإني أرتضى ناموس الله بحسب الإنسان الباطن لكنى أرى ناموسا آخر في أعضائي يحارب ناموس روحي ويأسرني تحت ناموس الخطيئة في أعضائي” (رو 7: 22، 23).

من رسالة عيد القيامة عام 1960م

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى